فرنسوا تروفو في بيروت. للمرّة الثانية غالباً. المرّة الأولى كانت في حياته، عشيّة الحرب الأهليّة حين شارك في مهرجان سينمائي دولي احتضنه «البستان» في بيت مري آنذاك، لتقديم رائعته «الليلة الأميركيّة». اليوم يشارك السينمائي الفرنسي «غيابيّاً»، بُعَيد الذكرى الثلاثين لرحيله، من خلال استعادة استثنائيّة تنظّمها جمعيّة «متروبوليس».
صالة «متروبوليس أمبير صوفيل» التي تستضيف تظاهرات لمخرجين وتجارب عالميّة، هي واحدة من الفسحات النادرة التي يترقّبها جمهور آخذ في التقلّص والانقراض نُطلق عليه تسمية «هواة السينما». أما زال هناك اليوم في بيروت من يهتمّ بالأفلام الإبداعيّة، الهادئة الإيقاع، الإنسانيّة الأبعاد، العميقة المغزى، المشغولة جماليّاً وأسلوبيّاً على مستوى التمثيل والحوار والتصوير والمونتاج. إلخ. أفلام ليس فيها خوارق وخرافات وإثارة وعنف، وتحطيم آليات وتدمير مدن وكواكب، وإيقاع لاهث، وبطل أميركي ينقذ العالم كل مرّة، وينتصر للخير على الشرّ، ويعيد العدالة إلى نصابها؟ المنارة الأخيرة تنتصب بصعوبة وسط أدغال الأفلام الضخمة الإنتاج التي تضرب الإحساس، وتشوّه الذوق، وتسطّح تقاليد المشاهدة، وتفسد متعة التلقّي والإصغاء والفهم والانفعال. عبر دفاعها عن سينما المؤلف، وتقديمها أعمالاً طبعت تاريخ الفنّ السابع، تحمل «متروبوليس» مشروعاً «مقاوماً»، ساعيةً إلى إعادة توازن إلى حياتنا الثقافيّة (تلك المهمّة مسؤوليّة الدولة أساساً، ووزارة الثقافة تحديداً، لكن ما هم!). وبين الأسماء الكثيرة التي تحتفي بها هذه الصالة، يحتل الضيف الحالي مكانة خاصة جدّاً: فرنسوا تروفو. أمس انطلقت تظاهرة استعاديّة لأفلامه تحت عنوان «تروفو… بغاية الشوق» (إحالة إلى آخر أفلامه Vivement Dimanche). إنّه سينمائي الحميم والخاص، وشاعر الكاميرا، غيّر طريقة النظر إلى السينما خلال حياته القصيرة (٥٢ عاماً. ٢٦ فيلماً). مسيرة بدأها مجهول الأب مشرّداً، بين جدّته وزوج أمّه والإصلاحيات والسجون، هارباً مثل بطله أنطوان دوانيل من المدرسة ليشاهد الأفلام الأميركيّة ويقرأ روائع الأدب ويحلم… إلى أن وضعه الناقد أندريه بازان على السكّة المناسبة. لم يدرس السينما، بل تعلّمها من مشاهدة الأفلام ونقدها، في ظلّ معلّمين مثل جان رينوار، وروبرتو روسلليني، وألفرد هيتشكوك، خصوصاً هيتشكوك الذي خصّه بكتاب مرجعي عام ٦٦. تروفو أتى إلى السينما من النقد مثل غودار زميله اللدود، ومعظم رفاقه الذين بدأوا في مجلّة «دفاتر السينما»، قبل أن يؤسسوا تياراً إخراجيّاً رائداً هو «الموجة الجديدة». ترك الأدب للإخراج، وترك لحياته أن تقتحم بعض أهم أفلامه منذ «تسرّب»Les 400 coups. ورغم إعلانه قطيعة صارمة في بداياته مع «النوعيّة الفرنسيّة» والسينما السائدة حينذاك، فهو اليوم، يبدو مكمّلاً لتلك الحالة الفريدة في الفن السابع التي هي السينما الفرنسية. خلافاً لجماعة «الموجة الجديدة» لم يعلن قطيعة شكليّة، ولم ينحُ إلى التجريب الأسلوبي، بل واصل السرد الكلاسيكي المنساب، وصوّر مشاهد خاصة وحميمة من الحياة الإنسانيّة، الحوار فيها أساسي، والحبكة مغمسة بالأدب، والديكورات طبيعية. إنّه «الرجل الذي كان يحبّ النساء». حَوْلَهنّ بنى أفلامه، وشبك قصص حبّه في الوقت نفسه. إنّه سينمائي الطفولة الضائعة، سينمائي الحب، والقصص الصغيرة المنسيّة في «دوامة الحياة» التي غنّتها جان مورو في «جول وجيم». قليل من مشاهده قد ينفع ترياقاً في هذا العالم المسموم الملوّث.