باريس | شاءت الصدفة أن يُقتل رسامو «شارلي ايبدو» (الأخبار 8/1/2015) يوم صدور «خضوع» (فلاماريون) للروائي ميشال ويلبيك (1958) وفي يوم خصصت المجلة الساخرة غلافها لهذا الكتاب الذي أحدث جدلاً قبل أن يصدر. تأثر ويلبيك بفقدان صديقه الاقتصادي برنار ماري في الهجوم، فعلّق حملة الترويج للكتاب واعتزل في مكان مجهول. كان يتوقع أن يشغل «خضوع» مقدمة المشهدين الأدبي والإعلامي مع بداية العام. لكن جاءت مجزرة «شارلي». لم يعد الكاتب بحاجة أصلاً لحملة ترويج.
(لطوف ــ البرازيل)
باع خلال أسبوع نحو ربع مليون نسخة بعدما تكفّل الأخوان كواش بإعادة مسألة الإسلام إلى قلب الحدث السياسي، وتحريض آلاف المهتمين على قراءة رواية ترسم صورة فرنسا «المتأسلمة» بعد أن تمرّ بمرحلة فوضى وشرذمة وتستسلم في النهاية إلى إرادة رئيس مسلم يقطن قصر الاليزيه اعتباراً من 2022 إثر ولاية ثانية لفرنسوا هولاند. يتصوّر ويلبيك أن القوتين السياسيتين الأساسيتين في البلاد، وهما الحزب الاشتراكي وحزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية» اليميني، سيقفان مع زعيم «الإخوة الإسلامية» محمد بن عباس لقطع الطريق على زعيمة «الجبهة الوطنية» مارين لوبان في الدور الثاني من الانتخابات.
صاحب «غونكور» (2010) أشعل جدلاً عام 2002 حين قال فيه إن «الإسلام أحمق ديانة». لطّف عبارته لاحقاً، معتبراً أنها مجتزأة من سياقها. لكنه اليوم يقول إن «القرآن أفضل مما ظننت بعدما قرأته»، وينفي رغبته في الاستفزاز. في المقابل، يرسم في كتابه سيناريو «موت العلمانية والجمهورية وعودة الديني من خلال خضوع الفرنسيين للإسلام». نظرية كذبتها «مسيرة الجمهورية» كما رأى الفيلسوف ووزير الثقافة السابق لوك فيري في مقال عنونه بعكس عنوان الرواية «عصيان».
وصفها مؤيدون
بالعمل «الرؤيوي» وشبّهوها
بـ «1984» لأورويل!

تراوحت ردود الفعل على «خضوع» بين من قال إنه يدعو «للغثيان»، ومن اعتبر الجدل حوله «في غير محله» لأنه في النتيجة عمل روائي ينحصر نقده في الإطار الأدبي، ولا يتحول إلى إشكالية سياسية. الكاتب ايمانويل كاريي نشر في جريدة «لوموند» ما يشبه المرافعة دفاعاً عن ويلبيك. اعتبر مؤلف «المملكة» أنّ العمل «استشرافي»، وأنّ «استشراف ويلبيك» ينتمي إلى عائلة الروايات الاستشرافية مثل «1984» لجورج أورويل أو «العالم الطريف» لالدوس هكسلي الذي عبر فيها عام 1931 عن خوفه من سيطرة العالم على الحياة وانتفاء العاطفة والشعر.
أحد النقاد رأى في كتاب ويلبيك «انتحاراً أدبياً» بعد كتاب «الانتحار الفرنسي» للمعلق اريك زيمور (1958) الذي شغل المشهد الفرنسي منذ ثلاثة أشهر وباع نحو 360 الف نسخة. الكتابان لعبا على وتر «الاسلاموفوبيا» وسؤال الهوية ورهاب الإسلام، مع الفارق بين عمل أدبي يعتمد «الخيال السياسي»، وكتاب زيمور الذي يقدم توصيفاً للواقع الفرنسي «المزري» منذ أربعين سنة.
لا يتردد الصحافي والمعلق المعروف بمواقفه المناهضة للهجرة وخصوصاً للمسلمين، في اعتبار أنّ «التغيير الديمغرافي» الأخطر بدأ في السبعينيات، حين أصبحت الضواحي الفرنسية تدريجاً بلون «عرقي وديني واحد، وغادرتها الفئات الشعبية من البيض لأن الاندماج في هذه الأحياء يتطلب أن تكون مسلماً كالآخرين». ويضيف: «المسلمون لهم قانونهم المدني، هو القرآن، يعيشون في ما بينهم في الضواحي». ذهب أبعد من ذلك حين دعا إلى وقف هجرة المسلمين إلى فرنسا. وفي مقابلة مع صحيفة إيطالية، أشار إلى «احتمال ترحيل المسلمين من فرنسا»، ومتنبئاً بحرب أهلية. تصريح أفاض الكأس، فقررت محطة «اي تيلي» وقف التعاون معه بعد أن كانت توفر له منبراً يومياً.
لم يغب «الانتحار الفرنسي» عن المشهد، رغم تراجع حضور مؤلفه نسبياً في وسائل الإعلام بعد حضور طاغ جعل أفكاره متاحة للجميع من دون قراءة الكتاب. وكان يمكن أن نتصوّر القسم الأول من رواية ويلبيك مكتوباً بقلم زيمور لجهة توصيف الاضطرابات والفوضى التي تصل إلى حد الحرب الأهلية في فرنسا. لكن في الصفحات الـ150 الأخيرة، يجعل ويلبيك ـ بذكاء ـ من الخطر «الإسلامي» حلاً لكل المشاكل، بعد أن يخضع الفرنسيون لدولة يتزعمها اسلامي يقول إنّه «مدافع عن القيم» كالنظام الأبوي وتعدد الزوجات وفرض الحجاب. يزدهر اقتصاد البلاد ويسود فيها السلم الاجتماعي، بعد منع حزب «الإخوة الاسلامي» (من خيال الكاتب) النساء من العمل ما يزيد من فرص العمل، وتصبح جامعة السوربون «الجامعة الاسلامية».
رفض ويلبيك اعتبار كتابه «هدية عيد الميلاد» لمارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف، معتبراً أنّ الأمور جيدة بالنسبة إليها ولا حاجة لكتاب. من جهتها، وجدت لوبان في كتاب ويلبيك «خيالاً قد يتحول الى واقع». أكثر ما أقلقها هو تصرفات حزبي اليسار واليمين اللذين يتحالفان ضدها كما جاء في الرواية. نقطة اعتبرها كثيرون ترويجاً من ويلبيك لمقولة إن الجبهة الوطنية وحدها «المنقذ» ضد «الأسلمة». دافع عن نفسه بالقول إنه «لا يعرف رواية غيرت مجرى التاريخ ولا نوايا التصويت». تحول الكتاب إلى موضوع تراشق كلامي على إحدى محطات التلفزة بين الصحافي ادوي بلانل مؤلف «من أجل المسلمين» والإعلامي باتريك كوهين مقدم الفترة الصباحية على اذاعة «فرانس انتر». رفض بلانل النظر إلى عيني كوهين المدافع عن ويلبيك، وندد بمنح الروائي «منبراً اعلامياً» رغم أنه «مناهض للإسلام». وعندما اقترح كوهين أن يناقشه، رد بلانل: «لا اناقش آراء عنصرية بل أحاربها»، متسائلاً ــ كما كثيرين ــ لماذا يمنح الإعلام مساحات واسعة لمناهضي الإسلام ويهمش في تغطيته كتاباً ومفكرين يدافعون عن رؤية مختلفة، لا ترى في الإسلام تهديداً؟ وقبل كتابي ويلبيك وزيمور، أثار الفيلسوف آلان فينكلكروت (1949 ـ الأخبار 15/4/2014) جدلاً حول الهوية عبر كتاب «الهوية الشقية»، حيث اعتبر أن التغيرات الديموغرافية الناتجة من تدفق المهاجرين إلى فرنسا وأوروبا تؤثر في الهوية الوطنية. وهو اليوم من أوائل من تبرع للدفاع عن رواية ويلبيك التي يراها «مستقبلاً غير مؤكد، لكنه محتمل».
لم ينف الروائي الإشكالي رغبته في اللعب على وتر الخوف، وتسريع التاريخ رغم إقراره أن عام 2022 يبدو قريباً، ووصول رئيس مسلم يحتاج لوقت أطول. خوف حذر منه الرئيس الاشتراكي فرنسوا هولاند أخيراً، داعياً إلى عدم الاستسلام له، مقراً بوجود أزمة هوية في فرنسا. وبصرف النظر عن ردود الفعل والجدل الذي أثاره ويلبيك، وقبله آخرون بسبب كتب طرحت مسألة الهوية الفرنسية مقابل الإسلام، فإن هذا النوع من الأعمال قد يكون مجرد «عوارض» تعبر عن خوف سائد لدى فئات عريضة في المجتمعات الأوروبية ترى نموذجها مهدداً بسبب المهاجرين. تيار بدأت مفرداته تصبح شبه «عادية» في الخطاب السياسي وحتى الثقافي والإعلامي. مفردات لم تعد حكراً على اليمين المتطرف وقد تتكرر أكثر في السنوات المقبلة مع انتقال الخطر الجهادي إلى عقر الدار الأوروبية، و»خلطه» بالاسلام في أفق استحقاق الرئاسة واستعار «المزاودة» مع اليمين المتطرف. أدب مناهض للإسلام يتغذى من هذا الرهاب المجتمعي ويعززه.