ماذا بقي من قاموس المقامات؟ وماذا سيبقى من رواة طنجة؟ سؤال يبقى متنازعاً بين تاريخ الأدب وسوسيولوجيا الثقافة في دراستها للمخيال الشعبي
أحمد المديني (*)
شكّلت طنجة منذ 1956، محجّاً لعشرات السياسيين والفنانين والكتّاب الغربيين: رونوار، ماتيس، أندريه جيد، هنري ميللر، جان جينيه... هؤلاء جاؤوا بحثاً عن اللون الأزرق، أو الشمس اللماعة، أو اللحم العربي الأسمر، أو لريّ أي ظمأ أو تطلّع ذي طبيعة عجائبية. وفي 1931، سيزورها كاتب أميركي هو بول باولز ثم يعود ليستقر فيها عام 1947 حتى وفاته عام 1999. قصة باولز مع طنجة طويلة ومشوّقة. لعلّ أكثرها تشويقاً كيف أنّ هذا الكاتب ـــــ الذي عُرف بنسج القصة والرواية وتسجيل موسيقى المناطق المغربيّة ـــــ غرف مما اعتبره الروح المغربية الأم، أي حكايات الناس أو مَن يمثلون غرائب الحياة وشذوذ المجتمع وهامشية الواقع. بدأ بتذوّق الطعم من خلال كتابة قصص قصيرة مستوحاة من طنجة، نماذجَ بشرية وفضاءً. وبدءاً من 1960 راح يولي الاهتمام للحكاية الشعبية والرواية الشفوية التي كان هو ذاته يمارسها، وترك منها سيرته الذاتية بالإنكليزية «الليلة قبل التفكير». خاض أول تجربة مع العربي العياشي (سيتبيّن لاحقاً أنّه اسم مستعار) الذي عرف السجن وعاش حياة التشرد في مدينة يلجأ إليها الطارئون وأبناء الريف، مستعدين لكل شيء للعيش والمغامرة. هكذا، أثمر التعاون كتاب «العيشة المذلولة» الذي صدر بالإنكليزية (1964). وفي العام التالي، صدر بالفرنسية بعنوان «حياة مليئة بالثقوب» (دار غاليمار) لكن بالاسم الحقيقي لصاحبه، وهو إدريس الشرادي. ستتواصل التجربة التي سمّاها النقد الأدبي في المغرب «رواة طنجة» على امتداد 30 سنة، وعلى يد المتعهّد نفسه بول باولز. هكذا، يقوم هذا الأخير بنوع من المقايضة السردية مع أفراد يروون حكايات قابلة للتسويق إلى جمهور متعطّش للمرويات الشرقية العجائبية، يتقاضون مقابلها مالاً شحيحاً.
كان محمد شكري آخر «زبون» يستقبله باولز في محترفه ليشتري حكايته. كان مجرد موظف يعمل على الآلة الكاتبة في مدرسة ابتدائية، عاش طفولةً شقيةً ومغامرات مطبوعة بالعنف والضنك. لذلك سيتاح له التوسّع فيه في «الخبز الحافي»، سيرته الذاتية. في 1973 ستصدر السيرة في أميركا بعنوان «من أجل الخبز وحده»، وبعد سنوات بالفرنسية بترجمة المغربي الطاهر بن جلون (دار ماسبيرو). بينئذ، كان شكري بدأ يصنع شخصية مستقلة، ثقاقية محترمة، في العالم السفلي لطنجة أو «حي السوق الداخل». شرع شكري في كتابة قصص قصيرة ثم نُشرت مجتمعةً لدى «دار الآداب» بعنوان «مجنون الورد». ستصل لشكري أصداء نجاح عمله، وترجماته، وسيحس بالغبن مع باولز، وستتنامى علاقته بكتاب السبعينيات، خصوصاً محمد زفزاف. وفي طنجة، صار يحوم حول أقلام وأسماء، مغربية وأجنبية، مستلطفاً وخدوماً، وسيكتب عن الأجانب وحدهم لاحقاً، ذاهباً صوب صنع الذات الأدبية التي ستعلن عن نفسها بالسيرة الذاتية مكتوبةً بالعربية، وستتعرض للمنع قبل أن تذيع منذ منتصف الثمانينيات.
الواقع أنّ قصة إدريس الشرادي «حياة مليئة بالثقوب» المنشورة باكراً في الستينيات لا تقل أهمية عن «الخبز الحافي» إن لم تضاهها احتفاءً بالشقاء والشقاوة. ولو توافرت لصاحبه ظروف الترجمة، أو النقل المباشر أو المحوّر إلى العربية، لكان له ولها شأن آخر.
وبصرف النظر عن الكتابات اللاحقة لشكري، وهي دون قيمة السيرة والشخصية اليومية التي اتخذها قالباً يدخل فيه كل صباح، فإنّ لنا حقاً أن نتساءل: أي قيمة حقيقية أو مفترضة لهذه النصوص التي لا نتردد في وصفها بالشفوية؟ والشفوية في أبسط معانيها هي المختلفة عن نسق الكتابي ـــــ الأدبي والمتميزة ببروتوكول روايتها. ماذا بقي من قاموس المقامات؟ وماذا سيبقى من رواة طنجة؟ ذاك سؤال يبقى متنازعاً بين تاريخ الأدب وسوسيولوجيا الثقافة في دراستها للمخيال الشعبي. لا بأس أن نتساءل أخيراً، أليس كلام الليل يمحوه النهار حقاً، وإلا فلمَ ظلت شهرزاد تسكت عن الكلام المباح؟!
(*) روائي وناقد مغربي