سماح إدريس *
سيكون من الدجل الصراح أن أدّعي أنّ ما سأكتبه هنا معزولٌ عن كوني ابنَ سهيل إدريس. لقد نشأتُ في بيت كان اتحادُ الكتّاب اللبنانيين فيه على مائدة الطعام، إلى جانب «الآداب»، مجلة وداراً. ولعلّ القرّاء لا يعلمون أنّ الاتحاد استنزف سهيلاً أكثر ممّا فعل أيُّ مجالٍ من مجالات حياته! غير أنّ أبي كان يرى أنّ الاتحاد جزءٌ لا يتجزّأ من عمله النهضويّ التغييريّ، بل لعلّه اعتبر عملَه هذا بلا مردودٍ اجتماعيّ راهنٍ ما لم يقترنْ بموقفٍ ثقافيّ جماعيّ، تحمله كتلةٌ واعيةٌ من أهل القلم. وكانت معاييرُ هذا الموقف واضحة: الدفاعُ عن حريّة التعبير، أياً كان المضطهِدُ والمضطهَد؛ ومناصرةُ النضال العربيّ، ولا سيّما في فلسطين والجنوب اللبنانيّ والعراق؛ والنأيُ عن السياسات الحزبيّة داخل العمل الثقافيّ. ولا ريب في أنّ تلك كانت أيضاً رؤيةَ ذلك الرعيل الأول من الاتحاديين، أمثال ميشيل عاصي وميشيل سليمان.

مع بداية الحرب اللبنانية، تحوّل اتحادُ الكتّاب إلى مجلس مصغّر للحركة الوطنيّة اللبنانيّة. وصار سهيل غالباً ضابطاً للتوازنات بين الشيوعيّ والقوميّ الاجتماعيّ والبعثيّ، وبين هؤلاء جميعهم والمستقلّين الذين كان أبي يحاول أن تكون لهم الكلمةُ الفاصلةُ في سياسة الاتحاد. وشيئاً فشيئاً، راحت الأحزابُ المتحكّمة في الاتحاد تنسِّب إليه من تشاء، وترئّس عليه مَن تشاء. وشيئاً فشيئاً أيضاً، خلا اتحادُ الكتّاب من المبدعين اللبنانيين الحقيقيين، وانقلب إلى ما يشبه السرابَ، رغم احتفاظه دوماً بالموقف العروبيّ والمعادي لدولة الكيان الغاصب. وكانت المطارقُ تهوي على الاتحاد من كلّ صوب: فريقٌ يريد تحويلَه إلى نقابةٍ من دون أن يفلح أو يقدّمَ آليّاتِ التحويل المنشودة؛ وفريقٌ يريد هدمَه بحجّة أنّه من إرث الدول الستالينيّة الشموليّة البائدة؛ وفريقٌ يعتبره محضَ امتدادٍ ثقافيّ للقوى الوطنيّة والتقدمية ضدّ أعداء الخطّ القوميّ واليساريّ؛ وفريقٌ تسلّق على أكتاف الاتحاد طمعاً في توزيرٍ أو تنويب. وفي الأثناء دخلتْ على الخطّ أيضاً نزعاتٌ «شبابويّة» أُعملتْ فتكاً بـ«الديناصورات» الذين هبّوا للدفاع عن «القيم». وصار الاتحادُ لكلّ شيء... وللاشيء تقريباً!
رُبّ قائل إنّ الاتحاد لا يصنع مثقفين. وهذا صحيح. لكنّ دور أيّ اتحادٍ للكتّاب، كما أرى، هو حماية المثقفين معنوياً ومادياً، وتمكينُ الوعي النقديّ على حساب ثقافة الانبطاح (ونقيضِها ثقافةِ الصراخ)، وبثُّ الحيويّة الفكريّة في كلّ الوطن. غير أنّ الاتحاد بقي أسيرَ خلافاته ومحاصصاته، ورهينَ «الموقف القوميّ» وحده. وتناقصتْ نشاطاته حتى صار أيُّ نادٍ ثقافيّ أكثرَ ديناميكيّة. بل لم يستطع أن يتّخذ منذ سنواتٍ طويلة، مواقفَ بإدانة مضطهدي الفكر، أو التضامن مع ضحايا القمع في مختلف الأقطار العربيّة (سيمون الهبر، أدونيس العكرة، ميشال كيلو، عارف دليلة...) وإنْ كنتُ من غير المحبّذين لاتحادٍ يكتفي بالمواقف.
اليوم، ومع تحوّل الاتحاد إلى ما يشبه الجثّة التي تستميت الذئابُ في نهش ما بقي فيها من أشلاء، أرى أن يتحوّل إلى لجنة للنشاطات الفكريّة الكبرى. أقترح أن يكتفي بإقامة ثلاثة مؤتمراتٍ سنويّة، تتناول قضايا فكريّة كبرى، من قبيل: الرقابات، والعلمانيّة أو المواطنة، وتجديد العروبة وغير ذلك من موضوعات تسهم في إشاعة الوعي النقديّ المرتبط بتقدّم المجتمع. وهذا أجدى من إصدار «مواقف» تتكرّر على مسامعنا يومياً، ومن مختلف المشارب الإيديولوجيّة أحياناً. دورُ المثقفين، ودورُ اتحادهم، ليس رفعَ الصوت وحده، بل تشذيبه وصقله وتطويره ليكون أقدرَ على الحياة والتأثير.

* رئيس تحرير مجلة «الآداب»