قبل عقدين أو ثلاثة من الزمن، لم يكن الشباب اللبناني يحتار كثيراً لدى مواجهته الإسرائيلي في الخارج. كانت المسلّمات واضحة. الأمر اختلف كثيراً في السنوات الأخيرة. التعامل مع الإسرائيلي، بما فيه «الحوار» معه، أمر يعاقب عليه القانون اللبناني. لكن مخالفة هذا القانون باتت ظاهرة لدى الكثير من الشباب، ولكلّ منهم سبب مختلف في تبرير هذه المخالفة. يرى كمال م. أن وجوده في أوروبا بغية التحصيل العلمي زاد من فرص التقائه بالإسرائيلين كذلك حتّم التعامل معهم، كغيرهم، طلاباً كانوا أو زملاء عمل. «لكنني لا أرى في هذا النوع من العلاقات الجامعية أو المهنية وحتى الاجتماعية أي خيانة أو تواطؤ أو خطأ، ما دامت خارج الإطار السياسي أو الأمني، ويمكن استغلالها لتبيان موقف لبنان الحقيقي عند طرح أيّ نقاش». إلا أنه يشدّد على توخّيه الحذر عند الاختلاط بالإسرائيليين «لأن أساليبهم الاستخبارية لا تخفى على أحد»، ويشير إلى أن «بعض الجاليات اللبنانية تبتعد عن الإسرائيليين قدر الإمكان، وفي بعض البيوت الشبابية اللبنانية يمنع دخول أو حضور أو مساكنة الإسرائيليين».
الحذر نفسه يساور إيهاب ع. الذي يحبّذ عدم إقامة أيّ نوع من العلاقات مع العدو، وإن كان يلقي التحية على زميله في حال صادفه أو اضطر إلى الحديث معه في أمور مهنية. لا يعيد هذا الحذر إلى القانون اللبناني فحسب، «بل إلى الصراع والحروب والاحتلال والمجازر التي ارتكبت بحقنا، كلّ هذا التاريخ يمنعنا من مخاطبتهم تلقائياً من دون أي سابق تفكير». وكرسالة غير مباشرة يوجهها إيهاب إلى الإسرائيلي ليخبره أنه لا يعترف بـ«إسرائيليته» يقول «في حال التقيت بأحدهم، أتوجه إليه بحسب جنسيته الأصلية، أي على أساس أنه بولندي أو روسي أو غير ذلك .. فهذه خير رسالة أوضح من أي نقاش!»
«الانتساب إلى منظمة غير حكومية، أو دعوة إلكترونية من أحد منتديات الاتحاد الأوروبي الشبابية، هما كلّ ما يتطلبه الأمر من أي شاب لبناني لمقابلة أفراد إسرائيلييين خارج الأراضي اللبنانية، من دون أن يتعرّض لأي ملاحقة أو مساءلة ومن دون أي تعقيدات»، تقول بتول ع. الناشطة في إحدى المنظمات المحلية ردّاً على سؤال عن أسهل وسيلة للالتقاء بالإسرائيليين في الخارج. تضيف بتول أنها «صعقت» لدى معرفتها أن زملاءها في العمل كانوا قد شاركوا في ورش عمل خارج لبنان بوجود إسرائيليين معهم في الفندق ذاته أو حتى في مجموعات العمل ذاتها، «وعلى الرغم من إصرار زملائي على أن أتصرّف على نحو طبيعي عندما جرى اختياري لتمثيل المنظمة في إحدى المرات، عزمت على تجاهل الإسرائيليين طوال مدة مكوثي هناك». توقعت بتول أن تلقى بعض الدعم لموقفها هذا من العرب عموماً واللبنانيين خصوصاً، لكن حدث عكس ذلك تماماً ولم تنجح في إقناع زملائها بالتصرف على نحو موحّد، والحذر من التمادي مع الإسرائيليين، «رفضوا، واعتبروا تصرفي سوداوياً ولا يعكس صورة لبنان الحضارية»!
أما علي ف. الناشط في مجال حقوق الإنسان، فيصرّح بفخر بأنه في المرتين اللتين قابل فيهما أفراداً إسرائيليين ضمن إطار عمله، نجح وزملاءه في حشد التأييد والمناصرة للقضية الفلسطينية، «معرفتي المسبقة بوجود إسرائيليين سمحت لي بالتخطيط المسبق والمتقن لتحركاتنا ونشاطاتنا. ففي السويد مثلاً، استطعنا أن نجمع تواقيع 19 مشاركاً من أصل 23 على عريضة اعترضنا فيها على وجود مدربة إسرائيلية ضمن فريق العمل، وذكّرنا بأن وجودها بيننا سيعرّض حياتنا للخطر في حال معرفة الدولة اللبنانية، ما سيؤدي إلى معاقبتنا قانونياً، وفي المحصلة نجحنا في إقصائها عن البرنامج، رغم أنها رفعت دعوى قضائية على الجهة المنظمة واتهمتنا وإياها بمعاداة السامية، لكننا لم نكترث، وكان خيارنا مقنعاً أكثر». يضيف علي أنه لا يؤمن بالتجاهل كخيار للتعامل مع الإسرائيليين، «بل علينا أن نورّطهم في النقاش، لأننا على ثقة بأن قضيتنا محقة ولدينا وقائع كافية تثبت همجيتهم وتدينهم، ولا يجب أن نتردد في مواجهتهم أبداً، خصوصاً أمام الأجانب من أوروبيين وغيرهم، فالمقاومة السلمية هي الخيار الأصحّ والأنجح في هذه الحال».
التفاعل الثقافي، الحوار الدائم، الفهم المتبادل، التشبيك، بناء السلام، التعاون والشراكة، التغيير الاجتماعي، بعض من العناوين الكثيرة التي يتسلمها البريد الإلكتروني للعديد من المنظمات غير الحكومية اللبنانية كدعوة لتدريبات وندوات وورش عمل تنظمها منظمات أوروبية، في إطار برامج شبابية أورومتوسطية يرعاها ويستضيف معظمها الاتحاد الأوروبي. والأخير، الذي لا تخفى عليه عدم شرعية التعامل مع إسرائيل لبنانياً على اعتبار أنها عدوّ، يدرج إسرائيل دائماً كإحدى البلدان الأساسية المشاركة إلى جانب بلدان عربية مستهدفة من منطقة الشرق الأوسط. فهل يشرّع اتفاق الشراكة الأورو ــــ متوسطية، الذي يعدّ لبنان أحد أطرافه، إقامة علاقات «غير حكومية» بين لبنان وإسرائيل؟ وهل تلغي صفة «غير الحكومية» أيّ رقابة حكومية على هذه المنظمات إن وجدت؟! وعلى عاتق من تقع المسؤولية عند اجتماع ممثلي لبنان «غير الحكوميين» بنظرائهم الإسرائيليين وجهاً إلى وجه؟ على الدولة أم المنظمات أم الأفراد؟ وأخيراً، من هي الأطراف التي يهدف الاتحاد الأوروبي إلى بناء السلام والحوار بينها؟ وهل ينصّب الاتحاد الأوروبي وبرامجه وسيطاً لتفعيل الصداقات العربية ــــ الإسرائيلية، خصوصاً أن هذه النشاطات تتكرر سنوياً وتستهدف المنظمات... والشباب ذاتهم؟ فهل يجب التذكير مجدداً بقانون المقاطعة؟