أرخت سلسلة الأزمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يعاني منها المجتمع اللبناني بظلالها على التقاضي وحقّ كل مواطن في الوصول إلى العدالة، إما شاكياً أو مشتكى عليه. يُعدّ التوقيف الاحتياطي إلى أجل غير مسمّى، من أبرز التحدّيات التي تواجه المتقاضين. ومع أن القانون ينصّ على أن مدة التوقيف الاحتياطي يجب ألّا تتخطى الشهرين (في الجنح) أو ستة أشهر (في الجنايات، تُمدّد في جرائم القتل وتجارة المخدرات)، وأن القاعدة الأولى في القانون الجزائي تنصّ على أن «المتهم بريء حتى تثبت إدانته»، إلا أن قواعد الممارسة العملية لتطبيق القانون وفقا لـ«الصيغة اللبنانية»، تُظهر أن الواقع شيء آخر. يستعرض هذا المقال ما ينص عليه القانون في ما خص التوقيف الاحتياطي، ويناقش الانتهاكات الإجرائية خلال مراحل التحقيق والسير في المحاكمات، وما لها من تأثير على تفاقم أزمة الاكتظاظ في السجون وأماكن التوقيف
«أشار النائب العام الاستئنافي بتوقيف المشتبه فيه على ذمة التحقيق وختم الملف وإعادته إلى مرجعه». جملة يردّدها معظم النوّاب العامين لدى مخابرتهم من قِبل الضابطة العدلية، التي يرفض عدد من عناصرها مخابرة النائب العام بمضمون الشكوى والاستجواب الأوّلي أمام المتهم ومحاميه. فيبقى المتهم موقوفاً على ذمة التحقيق إلى أن يمثل أمام قاضي التحقيق الذي يصدر مذكرة توقيف وجاهية بحقه بعد استجوابه ليصبح توقيفه قانونياً.

ماذا يقول النص؟
تقول القاعدة العامة في القانون الجزائي: «المتهم بريء حتى تثبت إدانته». ومن المفترض، بحسب القانون، أن يكون هذا إثباتاً قاطعاً بالأدلة والبراهين، فلا يقتصر أي حكم في الإدانة على الاستنتاج والتحليل فقط. وعلى كل قرار ظنّي (يصدر عن قاضي التحقيق)، أو اتهامي (يصدر عن الهيئة الاتهامية في القضايا الجنائية)، أو حكم جزائي (يصدر عن قاض منفرد جزائي أو محكمة الجنايات)، أن يذكر الوقائع والأسباب ويُعدّد الأدلة والإثباتات ليصل إلى إسناد الفعل للنصّ القانوني الذي يُحاكم على أساسه المتهم.
كما تُعدّ النيابة العامة المرجع الأساس الذي يبلّغ جميع القرارات خلال السير في المحاكمة وفي مراحلها كافة، من مرحلة التحقيق الأولي لدى الضابطة العدلية (قوى أمن داخلي أو شرطة عسكرية)، وتباعاً خلال التحقيقات اللاحقة والمحاكمة، وصولاً إلى تنفيذ الحكم. فتسجل الشكوى أمام النيابة العامة الاستئنافية، ويحيلها النائب العام إلى التحقيق. بناءً عليه، يقرر إما الادعاء وتحريك دعوى الحق العام، أو حفظ الشكوى لعدم وجود جرم. عندما تصل الشكوى إلى قاضي التحقيق، يستجوب كِلا طرفَي الشكوى المحالة أمامه بعد ادّعاء النيابة العامة، فيقرر إما الظن بالمدعى عليه وإحالته للمحاكمة، أو كفّ التعقبات بحقه لعدم كفاية الدليل، أو منع محاكمته لعدم وجود جرم. وفي كل قرار يتخذه، يستطلع قاضي التحقيق رأي النيابة العامة، بما في ذلك طلبات إخلاء السبيل التي قد توافق عليها النيابة العامة أو تترك الأمر لقاضي التحقيق أو تعترض عليها، وإن خالف قاضي التحقيق رأي النيابة العامة بإمكانها استئناف قراراه أمام الهيئة الاتهامية.
مع الأخذ في الاعتبار أنه بإمكان المدعي أن يتقدّم بهذه الإجراءات بشكل مباشر من دون الاستعانة بمحام في بعض القضايا الجنحية، باستثناء القضايا الجنائية التي تتطلب وجود محام لتمثيل المدعى عليه أمام المحكمة.

ماذا يقول الواقع؟
النهج العام أو المبدأ المتبع وفقاً لما نراه على أرض الواقع يخالف القانون تماماً. إن قرار التوقيف وما ينتج عنه من معاناة للموقوف وذويه ومحاميه لا تنتهي بانتهاء مدة التوقيف الاحتياطي، وبخاصة مع غياب الالتزام بهذه المدة في معظم الأحيان. نسبة كبيرة جداً من الملفات وغالبية القرارات تُردّ من قِبل النيابة العامة، والقضاة الذين يخالفون رأيها ويقررون الترك ليسوا كثراً، وفي حالات محددة تستأنف النيابة العامة أمام الهيئة الاتهامية قرار الترك إذا كان خلافاً لرأيها.
«لازمة» اعتراض النيابة العامة على طلب إخلاء السبيل أو طلب استرداد مذكرة التوقيف التي لا تستند بغالبيتها إلى مدة التوقيف الاحتياطي تزيد من الاكتظاظ في النظارات والسجون


تطبيق قاعدة المتهم بريء حتى تثبت إدانته وحق المتهم مهما كان الجرم المدعى به بالمحاكمة من خارج التوقيف، قاعدة غير موجودة على أرض الواقع في مسار التقاضي أمام المحاكم اللبنانية، إلا للمحظيين طبعاً ورفيعي المستوى السياسي من فاسدين وناهبي المال العام. أما عامة الشعب فمكرمون فقط بصدور الحكم باسمهم: «حكم باسم الشعب اللبناني».

النيابة العامة مع الناس أم عليها؟
تمثّل النيابات العامة المصلحة العليا للدولة، ويُعدّ النائب العام ممثلاً للحقّ العام في المحاكمات، الذي هو حقّ المجتمع المكوّن من المواطنين والمقيمين على الأراضي اللبنانية. وبالتالي، فإن المصلحة العليا للدولة تنطلق من المصلحة الشخصية لكل فرد في هذه الدولة. ومن المفترض أن يعتمد قضاة النيابة العامة معياراً أساسياً في جميع قراراتهم، ينطلق من معادلة «مصلحة الفرد الشخصية تحقّق المصلحة العليا للدولة». وعليه، من الضروري أن يحمي النائب العام هذه المصلحة من جوانبها كافة عند اتخاذ أي قرار.
لكن، ليست هذه هي الحال. فعلى سبيل المثال، «لازمة» اعتراض النيابة العامة على طلب إخلاء السبيل أو طلب استرداد مذكرة التوقيف، التي لا تستند في غالبية الأحيان إلى مدة التوقيف الاحتياطي، تزيد من الاكتظاظ في النظارات والسجون، كما يزيد عدد المطلوبين بمذكرات توقيف غيابية والهاربين من وجه العدالة.

قضاء «لناس وناس»؟
يبدو أن الوصول إلى القضاء العادل والمنصف، الذي هو أساس بناء أي مجتمع وحصانة كل فرد، بات أمراً صعب المنال. إذ يشوب المحاكمات في لبنان، والتقاضي بشكل عام، العديد من المشكلات والتحدّيات التي لا تشجع المواطن على المثول أمام المحاكم. ومن «يعلق» ولا مغيث له، من مال أو سلطة، قد يُنسى في غياهب السجون والنظارات، بغض النظر عن نوع الجرم المرتكب أو المتهم بارتكابه.
لم يعُد الوصول إلى التقاضي ميسّراً لعامة الناس (راجع «القوس»، عدد 11 آذار 2023، «النيابة العامة المالية: لزوم ما لا يلزم»)، لا سيّما مع هيمنة السلطة السياسية على السلطة القضائية التي جعلت مقولة: «هيدا القاضي مين مفتاحو؟» ترافق كل موكل قبل السير بأي دعوى. لأن النهج المتّبع أمام عدد لا بأس به من القضاة، وبشكل خاص قضاة الجزاء، يقوم على الإرضاءات المتنوعة الأسباب وعلى رأسها إرضاء المراجع السياسية، التي من خلالها يكتسب القاضي ثقة المرجعية السياسية والطائفية التي تُعدّ السند لتأمين المراكز الوظيفية.