في ظل تعطّل العمل القضائي وثقل كاهل المحاكم بالملفات والقضايا المتراكمة و«تطيير الجلسات»، لم يُحاكم معظم المحتجزين في السجون ومراكز التوقيف. من بين 8350 محتجزاً في لبنان، هناك 6889 ينتظرون المحاكمة، وبذلك تتخطى نسبة التوقيف الاحتياطي 82%. يُعدّ الاستخدام المفرط للتوقيف الاحتياطي وطول مدة الإجراءات السابقة للمحاكمة، والافتقار إلى البدائل غير الاحتجازية (قبل المحاكمة وبعد إصدار الحكم)، من العوامل الأساسية لاكتظاظ السجون، الذي لا يقتصر على «نقص مساحة»، بل هو عقبة رئيسية أمام تحقيق بيئة سجون آمنة وصحيّة وإنسانية. كما أنه يقوّض أداء الوظيفة الأساسية للسجون في إصلاح السلوك الجنائي. يمكن أن يساعد تأطير الإجراءات الجنائية للحد من اللجوء إلى الحرمان من الحرية في بعض الحالات، واعتماد نهج «إعادة التأهيل والإدماج» في السجون ونقل إدارتها إلى مؤسسة متخصّصة، في الحد من الاكتظاظ وتفعيل التواصل بين مؤسسات العدالة الجنائية

أوقفت شعبة المعلومات الأسبوع المنصرم ما يزيد على 190 مشتبهاً فيهم بجرائم سرقة، وتعاطي وتجارة مخدرات وعمليات احتيال بحسب البيانات الرسمية الصادرة عن المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي. في الأسبوع نفسه، أوقفت مديرية المخابرات نحو 400 شخص لتورطهم في جرائم وجنح متعددة. رغم أهمية هذه التدابير الأمنية وعمليات الرصد والملاحقة لضمان السلامة العامة ولمنع إفلات المجرمين من العقاب ودعم الضحايا، إلا أن السجون ومراكز التوقيف بدأت تغصّ بالنزلاء، والأمر يزداد سوءاً في ظل ظروف الاحتجاز الصعبة البعيدة عن المعايير المقبولة.
فقد أدى الارتفاع في استخدام «الحبس» إلى ضغط مفرط على السجون ومراكز التوقيف، ولا سيّما أن المرافق المستخدمة حالياً كسجون (باستثناء سجنَي رومية وزحلة)، صُمّمت في الأصل لأغراض مختلفة (إسطبلات، أو ثكنات عسكرية، أو مراكز شرطة، أو مستودعات). وحتى بعد إجراء بعض التغييرات الهيكلية عليها، فإنها لا تزال غير ملائمة كسجون وتحتاج إلى صيانة. فغالبية المرافق مكتظة، الزنزانات والغرف والمهاجع تفتقر للأثاث، وينام المحتجزون على حصائر (إن وجدت). وحتى المساحة الأرضية، في معظمها غير كافية لجميع السجناء للاستلقاء في الوقت نفسه، فيتناوبون على النوم. إلى جانب ذلك، يؤثر الاكتظاظ بشكل سلبي على جودة التغذية والصرف الصحي والنظافة والخدمات الصحيّة وأنشطة السجناء وبرامجهم، ما يقلل من احتمالات نجاح إعادة إدماجهم (راجع «القوس»، عدد 18 آذار 2023، «حاجات للبقاء»).

عدد الموقوفين إلى ارتفاع؟
بين المسجونين، محكومون يقضون «فترة العقوبة» في مراكز توقيف غير مخصّصة أساساً لهذا الغرض. ومنهم موقوفون احتياطياً في سجون، يقضون فترة «العقوبة قبل الإدانة»، وفي بعض الحالات قد تتجاوز فترة الاحتجاز فترة العقوبة. ومنهم من يتبيّن لاحقاً أنهم أبرياء و«لهم أيام عالدولة».
من المتوقع أن يستمر عدد الموقوفين في الارتفاع لعدة عوامل، أهمّها: تأثير الأزمة المالية على عمل القضاء في المحاكم وما له من تأثير على البتّ في الملفات والقضايا، ويشمل ذلك التحدّيات اللوجستية وانقطاع التيار الكهربائي وتحدّيات «سوق» الموقوفين إلى قصور العدل مع ارتفاع أسعار المحروقات وغياب الصيانة لآليات نقل السجناء. أضف إلى ذلك، الإضرابات المستمرة للمساعدين القضائيين، مع الأخذ في الحسبان أن العملية القضائية كانت بالكاد تتحرك حتى قبل الإضراب، بسبب تأخير المحاكمات لعدة أسباب، أهمّها جائحة كورونا، وإضراب المحامين واعتكاف القضاة، إذ عُلّقت جميع الأعمال القضائية بما فيها البتّ بطلبات إخلاء السبيل، إضافة إلى الاستخدام المفرط لتدابير التوقيف الاحتياطي، وزيادة مدة الاحتجاز قبل المحاكمة.

توقيف احتياطي أم تعسّفي؟
رغم أنه «لا يجوز أن تكون القاعدة العامة هي أن الأشخاص الذين ينتظرون المحاكمة يجب أن يُحتجزوا»، وأن «الحبس الاحتياطي يجب أن يُستخدم كملاذ أخير في الإجراءات الجنائية، مع إيلاء الاعتبار الواجب للتحقيق في الجريمة المزعومة ومن أجل حماية المجتمع والضحية»، يوضع العديد من المشتبه فيهم بارتكاب جرائم رهن الاحتجاز، غالباً لفترات طويلة غير مقبولة، بغضّ النظر عمّا إذا كانوا يشكلون تهديداً للمجتمع أم لا.
في بعض الحالات، لا يكون الاحتجاز السابق للمحاكمة قاسياً فحسب، بل يكون مخالفاً للقانون أيضاً، إذ ينتظر السجناء شهوراً وسنوات قبل المحاكمة، وهذا بعيد جداً عن الحدود التي ينصّ عليها القانون. طارق، أحد نزلاء سجن رومية، أوقِف سنة 2020 للاشتباه في جريمة السرقة عبر النشل (جنحة) المنصوص عليها في المادة 636، الفقرة 2 من قانون العقوبات. من المفترض -بحسب القانون- أن لا تتعدى مدة التوقيف الاحتياطي شهرين كَون الجريمة هي جنحة، وفقاً للمادة 108 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، لذا كان لا بدّ من إخلاء سبيله في السنة نفسها. لم يكن لدى طارق خيار سوى تعيين محام، لكنه يتساءل عن جدوى خياره هذا، ولا سيّما أن ملفّه القابع في أحد «جوارير» قصر عدل طرابلس، لم يتحرك منذ ثلاث سنوات لأسباب عديدة، هي نفسها التي عُلّقت جميع الأعمال القضائية بسببها. فهل يقبع طارق في السجن مدة تتجاوز مدة العقوبة في حال أدين بالجرم المنسوب إليه؟

عدالة بالفريش؟
من المفترض أن لا تتعدى مدة توقيف محمد (نزيل في سجن رومية منذ سنة 2021) ستة أشهر بحسب المادة 108 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، كَونه مشتبهاً فيه في جناية سرقة تمّت عبر الكسر والخلع لأحد المباني المأهولة، المعاقب عليها في نص المادة 639، الفقرة 1 من قانون العقوبات، بالأشغال الشاقة من ثلاث سنوات إلى سبع سنوات. لكن، مع كل محاولة تقديم طلب إخلاء سبيل، يصطدم محمد باعتكاف القضاة، ولا سيّما أنه لم يعد قادراً على تعيين محام لمتابعة ملفه، ويقول: «بالنسبة للمحامي إذا بتقوليله مرحبا بيقلّك بدّي 100 دولار، حتى أهلي ما عم يقدروا يزوروني من السنة الماضية».
لا يزال مئات الأفراد الذين انتهوا بالفعل من قضاء عقوباتهم وراء القضبان لعدم قدرتهم على دفع غراماتهم


إضافة إلى ذلك، في بعض القضايا، لا يزال مئات الأفراد، الذين انتهوا بالفعل من قضاء عقوباتهم، وراء القضبان لعدم قدرتهم على دفع غراماتهم. على الرغم من مساهمة بعض المنظمات غير الحكومية في تقديم مساعدات قانونية مجانية، إلا أنها تقتصر على بعض قضايا الجنايات.

معاناة متزايدة
«لكل سجين الحقّ الأساسي في الاتصال بالعالم الخارجي والأسرة خلال فترة السجن»، بحسب قواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء 1955 وقواعد نيلسون مانديلا لعام 2015، ولا سيّما أن تعزيز العلاقات الأسرية أثناء السجن مهم للحفاظ على وحدة العائلة، وتعزيز الرفاهية النفسية لأفراد الأسرة (ولا سيّما الأطفال). كما تسهّل إعادة دمج السجين في المجتمع بعد الإفراج عنه، والحد من إعادة الإجرام. إلا أنه مع تفاقم الأزمة الاقتصادية وارتفاع أسعار المحروقات بشكل كبير، لم يعد بمقدور العديد من العائلات زيارة ذويهم في السجون، وخصوصاً السجون المركزية، الأمر الذي أثّر بشكل أساسي أيضاً على قدرة السجناء على توفير حاجاتهم الأساسية، من غذاء ومواد تنظيف وملابس وغيرها، إذ إن الأسعار في الحانوت باتت مرتفعة جداً، في ظل انهيار الليرة اللبنانية وتآكل القدرة المادية للسجناء وذويهم.

للحدّ من الاكتظاظ
تساهم التدابير غير الاحتجازية كبديل للسجن، بشكل مباشر، في الحد من عدد النزلاء في السجون وبالتالي تخفيف الاكتظاظ. كما أنها تدعم بشكل أفضل فرص إعادة التأهيل وإعادة الإدماج للمجرمين، ما يؤدي بدوره إلى التخفيف على المدى الطويل من اكتظاظ السجون. كذلك، من الضروري إصلاح التشريعات والسياسات والممارسات المتعلقة بالاحتجاز السابق للمحاكمة وتخفيض العقوبة والتدابير البديلة، إضافة إلى ضرورة تزويد إدارات السجون بالإرشادات الفنية والعملية حول كيفية البدء وتعزيز برامج إعادة التأهيل، بالتنسيق الوثيق مع الجهات الحكومية وغير الحكومية، بما في ذلك توفير التدريب المستمر لمسؤولي السجون حول مواضيع مختلفة، تتضمّن التواصل وحل النزاعات وكيفية معاملة السجناء ذوي الإعاقة والأحداث وغيرها.