أحبّائي طلاب وطني الغالي،أتوجّه إليكم من خارج مكاني الطبيعيّ في قاعة التعليم، وفي أحلك الظروف التي نمرّ بها.
أعرّفكم أوّلًا بنفسي: أستاذ منذ 22 عاماً. دخلت سلك التعليم، متعاقداً بوساطة من مديرة نزيهة لا أعرفها رأت فيّ كفاءة فألحّت على الوزارة للتعاقد معي، ثمّ خضعت عام 2004 لامتحانات مجلس الخدمة المدنيّة، وهو من المؤسسات القليلة جداً في بلدنا التي لا يشوبها الفساد، وهو من منجزات عملاق عزّ مثيله في تاريخ لبنان هو الرئيس فؤاد شهاب. نجحت، وحزت المرتبة الأولى وبدأ مشواري في ملاك التعليم الثانويّ. أعمل كذلك في تأليف الكتب التعليميّة، وتصميم المناهج الرقميّة، ولكن ليس لمصلحة وطني فهذا ممنوع عليّ لأنّني لا أقبّل أعتاب السلاطين. بدأت بنقد المناهج التي جرى تأليفها لكم في عام 1997 وانطلقت عام 2001، وهي مناهج ليس فيها الحدّ الأدنى من مقوّمات التربية والتعليم والتعلّم، وخضعتْ وقتها للمحاصصة وتوزيع المغانم، ولم يجر تعديلها ولا تطويرها منذ ذلك الحين، لأنّ التربية عندهم ليست ذات قيمة، والآن يتحاصصون على مناهج جديدة ستنطلق فور تسلّمهم الأموال من الجهات الخارجيّة، فلا تستبشروا، فسوف تكون لها عناوين برّاقة ومحتوى خاوٍ، على الأرجح.
نحن اليوم في إضراب أنتم ضحيّته الأولى، ولكنّه إضراب -ولأوّل مرّة منذ وعيي- لا يكون لأسباب تحسين ظروف الأساتذة، بل لأنّ أساتذتكم لم يعودوا قادرين على إكمال حياتهم وأسرهم، بكلّ ما للكلمة من معنى. لا يملك معظمهم القدرة على الوصول إلى المدرسة وإن وصل فهو غير قادر على إطعام أسرته وكسوتها وطبابتها، أستاذكم إذا مرض لا يقدر على شراء الدواء ولو كان ذا مرض مزمن أو مستعص فمتروك لمصيره: ألم ثمّ موت أو موت بصمت.
السلطات تتعاطى مع هذه الحال بخفّة غير مسبوقة، ولا مسؤوليّة، وهذا أمر غير مفاجئ، فالطبقة السياسيّة غالبها لم يعتل المنصب لأنّه رجل دولة يعمل على سياسة أمور الناس لما فيه مصالحهم، بل هو موجود لتسيير مصالحه وزيادة ثرواته وأسرته، وأبناؤه يتعلّمون في أفضل المدارس الخاصّة بأبناء الأثرياء، أو في الخارج.
أنتم، ونحن، ضحيّة وجودنا في هذا الوطن، ولتسمحوا لي أن أكون صريحاً، ومن يعرفني في حجرة التعليم يعرف أنّني لا أنقل معلومات إلى طلابي، بل أفتح عقلي على عقولهم لنفكّر معاً في كلّ شيء، ولذلك أنا أربط العلوم الّتي ندرّسها بحياتنا، وأسمّي الأشياء كما هي، والميزان الحاكم على الصواب هو عقولكم الحرّة الواعية، الناقدة التي لا تستسهل الاقتناع إلا بالمنطق والدليل. نحن يا أحبّائي لسنا ضحيّة الطبيعة التي أوجدتنا على هذه الأرض، بل ضحيّة سوء تصرّف الأجيال التي سبقتنا، فمعظمهم عاشوا على العصبيّة والقبليّة ونصرة الزعيم ولو كان ظالماً، وعداوة الشريك في الوطن ولو كان محقاً. ورثنا هذه الآفات وندفع ثمنها... جيلنا دفع ثمنها الأغلى: خسر شرفاؤنا حياتهم وطموحاتهم في الوطن لأنّهم رفضوا منطق القبائل، وخسر الباقون حياتهم في مكاسب زائفة أورثت مزيداً من التردّي. واليوم جميعنا خاسرون، انهار البلد المنهار أصلاً، كان منهاراً أخلاقياً، والآن أورث الانهيار الأخلاقيّ انهياراً أعظم في كلّ شيء، أبسطها الانهيار الماليّ، وهذا نتيجة حتميّة لمسار الأمور منذ الحرب الأهليّة، على الأقلّ.
أحبّائي: وصّفت الحال بإيجاز، ولكنّني مؤمن بالأمل، الّذي به نستطيع الصمود. وهذا الأمل معقود عليكم! قُدّر لجيلكم أن يحمل مسؤوليّات جساماً في سنّ الشباب الأولى... كما قُدّر لجيلنا أن يعيش طفولته وجزءاً من شبابه تحت نيران الحرب الأهليّة، تعيشون أنتم اليوم تحت نيران الفساد الأخلاقيّ والسياسيّ وتسلّط طغمة السلطة الفاسدة المدعومة من كلّ ظالم في هذا العالم.
منعكم حكّامنا الظالمون من حقّ التعلّم في حجرات التدريس الرسميّ، ولكنّكم تملكون ما يؤهّلكم أن تتعلّموا على أنفسكم، وبما نقدر نحن عليه من تسخير أنفسنا لكم، كلّ بحسب استطاعته ومن مكانه، ولكنّ الّذي لا يستطيع أحدٌ أن يسلبه منكم هو الأمل، والإصرار على النجاح وبناء الغد المشرق، ونحن اليوم وإن كنّا لا نستطيع الحضور لأداء واجبنا في الثانويّات كما ينبغي، فإنّنا نضع بين أيديكم درساً هو الأبلغ، والأصدق، وهو درس الكرامة، ومقاومة الظلم، ومواجهة الظالم مهما عتا، ومعاونة الضعيف، وإدراك اللهيف، والتعاون على البرّ والتقوى، وهذا ما نقوم به بلحمنا الحيّ... هم يريدون قتلنا ونحن ندافع عن أنفسنا حتّى الرمق الأخير، وقد يتمكّنون من قتل أجسادنا، وتعجيزنا عن متابعة حياتنا الكريمة، ولكنّهم لن يهزموا إرادتنا، ولن يبلغوا مرادهم في إركاعنا، وسنموت حين نموت، واقفين، لعلّنا نكون لكم جسر نجاة، تعبرونه في الصبح خفافاً، فأضلعنا امتدّت لكم جسراً وطيداً، ولتبنوا من بعدنا غدكم الأزهى، ووطناً يليق بقلوبكم النقيّة التي لا تتلوّن سوى بالمحبّة والوعي، ولتبق جباهكم مرفوعة، كجبال لبنان الشامخة، عاتية على العاتي، وتذكّروا أنّ من قاوم المحتلّ الغاصب وأخرجه ذليلاً من أرضنا الطاهرة، ودحر الإرهاب المجرم ومشروعه المدمّر، لن يعجز عن مواجهة طغمة فاسدة عاثت فساداً في البلاد، وتريد أن تسرق من أعينكم أحلامكم، والمستقبل الجميل الذي تستحقّون.
عشتم، عاش الأمل المعقود على سواعدكم، عاش وطننا حراً عزيزاً.
* أستاذ تعليم ثانوي