على الطريق العام لبلدة المروانية، لا يزال آل حمزة يحتفظون باللافتة الزرقاء التي كُتب عليها H. الحرف الذي كان يدلّ إلى وجود مركز صحي، لم يُترَك فقط بهدف حفظ أثر مستشفى التوليد التي كان يديرها الطبيب النسائي ماهر حمزة، بل أيضاً لتكريم والدته «الداية» ميمونة كوثراني، التي أسّست العيادة في منزلها في الستينيات، بدعم من زوجها. تلك «الداية» التي لم تكتفِ بالطب المتوارث، بل صقلته بالعلم حتى صارت قابلة قانونية.امتلكت كوثراني تأثيراً واسعاً على عائلتها ومحيطها. منذ أشهره الأولى، كان ماهر حمزة يرافقها في مهمات الولادة بين القرى. يجلس مع الأهل في انتظار انتهاء عملية الولادة التي تجريها والدته في الغرفة الأخرى. تأثر بتفاعل البشر في تلك المواقف التي تشكل لدى الغالبية المحور الأهم في حياتهم. ورث مهنة التوليد عن والدته ثم أورثها لنجله حسن. وكلاهما، كما «الست ميمونة»، تفرّغوا لتلك المهنة «التي تتحكم بوقتنا وكفيلة بأن تأخذنا من عوائلنا وخصوصياتنا متى تريد». للأسباب نفسها، لم تصمد شقيقته مي طويلاً في المهنة. تراجعت سريعاً وانتقلت إلى مجال التجميل، رافضة أن تسيطر هذه المهنة على حياتها وحياة أسرتها وتنهك خصوصياتهم، كما حصل مع والدتها. فالأخيرة لم تنعم بخصوصيتها حتى خلال ولادتها لأولادها السبعة. ومن دون أن تُدرك، سلبت منها حقها في الخوف والوجع، حتى في لحظة ولادتها. «استعنتُ بشقيقتي سكنة كوثراني لمساعدتي في توليد النساء. ولما حان دوري، كنت أملي عليها التوجيهات لتساعدني وأنا ألد طفلي، كما كنت أفعل عندما ألد الأخريات». وخلال فترة الرضاعة، اضطرّت في كثير من الأوقات لترك أطفالها لتلبية نداء الولادة، حتى أن ابنها ماهر أرضعته إحدى الجارات في غياب والدته.

تعاون ثلاثي
«تقاعدت مجبرة» تقول كوثراني (83 عاماً). تضحك وتنظر إلى ابنها «الدكتور ماهر» الذي قرّر عام 2003 إقفال عيادة المروانية ونقلها إلى صيدا. قبل أن تعتاد المريضات على العنوان الجديد، كنّ يقصدن أم ماهر لفحصهن. «في حال كانت الأم على وشك الولادة، كنت أولّدها. وفي حال كانت متأخرة، كنت أرسلها إلى ابني». الأخير تأثر بوالدته. دعمته خلال دراسته للطب النسائي والتوليد في الخارج، وبعد تخرّجه «ورث مريضاتي عالجاهز وأكمل مع بناتهن وحفيداتهن، برغم وجودنا في بيئة محافظة».
ما بين تخرّجه عام 1990 وانتقاله إلى صيدا، شكل الطبيب مع والدته ثنائياً أدار عيادة المروانية، قبل أن يشكلا ثلاثياً مع انضمام مي، التي تخصّصت قابلة قانونية كوالدتها. تفتخر أم ماهر بفترة التعاون التي دمجت خلالها خبرتها مع علم ولديها. «مجالنا تطور كثيراً. وعندما انضم ابني إليّ، صرت مطمئنة أكثر لسلامة المريضات والمواليد». لكن تقديرها العالي لابنها، لا يجعلها تنكر إنجازها الخاص طوال خمسين عاماً. برغم أنها لا تصنّف نفسها «داية»، لكنها لا تنتقص من تجربة «الدايات» المتأتية من العلم والخبرة و«إن كان لا يضاهي علم الأطباء»، لذا قرّرت أن تكون «الدكتورة الداية».

«الداية الدكتورة»
منذ صغرها، قرّرت تعلّم التمريض بسبب معاناة والدتها في الانتقال إلى النبطية لتتلقى إبرة لغياب المتخصصين في المنطقة. وبعد استقرار عائلتها في بيروت، التحقت بمدرسة تمريض لتتخرّج منها قابلة، إذ استهوتها فكرة التوليد والاهتمام بالأم وحديثي الولادة. وفي مستشفى الدكتور فؤاد خليفة في رأس النبع، أجرت تدريبها العملاني الأول. أما عمليتها الأولى، فقد تمّت عن طريق الصدفة، في مسقط رأسها، المروانية، خلال زيارة عائلية. «إحدى قريباتي أتاها الطلق وطلبت مني بأن أولّدها. لا أنا خفت ولا هي ترددت. ولما لمس الناس شجاعتي وثقتي بنفسي ولم أكن قد بلغت العشرين من العمر، ذاع صيتي في المحيط». استقرار ميمونة في المروانية بعد زواجها عام 1962، سمح لها بتركيز عملها في القرى المجاورة حيث كانت غالبية السيدات تعتمد على «الداية» في الولادة. كثيرات وثقن بها «لأنها تعلّمت المصلحة في الكلية وليس بالوراثة». لكن البعض، لا سيما كبار السن، «رفضوا الاستعانة بي لتوليد زوجاتهم أو بناتهم لأني صغيرة في السن».
تقرّ ميمونة بأن التخصّص جعلها تتفوّق على زميلاتها. «نسبة الأخطاء تقلّ تلقائياً بالعلم والدواء. كان زوجي يجول على صيدليات النبطية ليوفر إبر النزيف والطلق». تؤكد أم ماهر بأنها لم تشهد على أي حالة وفاة بين مريضاتها. «كنت أحيل الحالات الصعبة إلى المستشفى مباشرة». زوجها محمد حمزة لا يزال يحتفظ بسجلات الولادات التي مرّت على يدي زوجته، «الولادات مؤرشفة بشكل منظم وكانت زوجتي تملك ختماً رسمياً من وزارة الصحة لاستصدار شهادات ولادة».
لا تنحصر تجربة «الداية» ميمونة بالتوليد فقط. كل ولادة تشتمل على خلفيات أصحابها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. «على أيامنا، كانت المرأة تأتي في يوم ولادتها فقط. كان يعتبر عيباً ودلالاً أن تطلب الحامل مراجعة الطبيب قبل الولادة، وكانت السيدة تخجل بحملها خلال تجوالها بين الناس، فتخفي بطنها المنتفخ بالثياب أو الحقيبة». وبرغم تنوّرها علمياً، لا تدعي بأنها كانت أكثر تقدماً في كسر التقاليد: «كنت أزعل عندما تلد الأم بنتاً. وعندما كنت أبشّر الأهل بولادة صبي، كنت أحظى بإكرامية». في زمن ميمونة، كان مسار الأمومة نسائياً. لم يكن للرجل أي دور خلال فترة الحمل والولادة سوى بالتلقيح. لذا «صُدمت عندما طلب أحدهم حضور ولادة زوجته. كان الوحيد من طلب ذلك ورفضت بشدة. هو ابن المنطقة، لكن ليس ابن بيئته. بل كان يعيش في ألمانيا».

الولادة بين زمنين
لا تجد ميمونة أيّ قاسم مشترك بين الولادة في زمنها والولادة في الزمن الحالي. ليس في طغيان الولادة القيصرية على الولادة الطبيعية فحسب، بل أيضاً في طقوس الحمل والمعاينات والإنجاب. عندما بدأ حمزة بالتوليد مطلع التسعينيات «كانت نسبة الولادات الطبيعية 95%، أما الآن فقد أصبحت نسبة الولادات القيصرية 80%».
كانت السيدة تخجل بحملها وكان يُعدّ عيباً أن تطلب مراجعة الطبيب قبل الولادة


لماذا؟ يستعرض حمزة عوامل متنوّعة لتفضيل الولادة القيصرية على الطبيعية، منها ما هو طبي ومنها ما هو اجتماعي. «خلال الولادة الطبيعية، تطول مدة الانتظار لينزل الطفل، ما يزيد من احتمالات الخطر على صحة الأم والجنين. في السابق، كان الأطباء والأهل على السواء يتوافقون على معادلة (عملنا ما علينا والباقي على الله)، أما الآن فالأهل لا يتقبّلون ذلك. والطبيب نفسه لا يُحمّل نفسه أي مخاطر، لذا يفضل عدم الانتظار والشروع بتوليد الأم قيصرياً، علماً أن المعتمد في أوروبا وأميركا هو الولادة الطبيعية. أما هنا فالطبيب لا يمكنه تطبيق ذلك إذ يُحمّل وزر أي مضاعفات طبية ويُشهّر به وما من جهة تحميه». سهولة الولادة القيصرية شجعت النساء أيضاً. «البنج كان كاملاً وأصبح لاحقاً نصفياً، وفترة التعافي في المستشفى تقلصت أيضاً». عامل أساسي يشير إليه حمزة للتوجه نحو الولادة القيصرية هو ازدياد نسبة العقم وتأخر سن الزواج. «صار الولد عزيزاً، فلا تخاطر الأم بانتظار الولادة طبيعياً خوفاً من أي مضاعفات. فضلاً عن أن الخاضعة للتلقيح، لا نلدها إلا قيصرياً لنضمن أفضل الظروف لها».
هل تغيّرت أجساد النساء أيضاً؟ يجزم حمزة بأن صحة النساء تؤثر بالدرجة الأولى على قدرتهنّ على الإنجاب طبيعياً. لكن أجسام النساء في السابق كانت مختلفة باختلاف الطعام وطبيعة العمل. «النساء سابقاً كن يشتغلن في الزراعة، فضلاً عن أعمال المنزل، ما منح أجسادهن ليونة وقوة، إلى جانب نوعية الأكل الصحي. تلك الأجسام الطيّعة كنت أراها في عيادة والدتي قبل أربعين عاماً. حينها، كانت السيدة تأتي للولادة وهي بثياب العمل. تلد بسلاسة وبعد ساعتين تغادر إلى منزلها بكامل نشاطها». حالياً، يقابل حمزة هذا النوع من النساء بين النازحات السوريات.