بعض المحامين متخصّصون في قضايا الأحوال الشخصية، ويكون محور معظم ملفاتهم هو القضاء الشرعي لأسباب متعددة، منها سرعة التقاضي في المحاكم الشرعية بشكل عام. وقد تعددت الملفات نتيجة حدة الخلافات التي تنتج منها عشرات الدعاوى بين الزوجين، إذ يخوض طرفا النزاع معركة تسجيل أكبر عدد من الأهداف في مرمى الخصم. وهذا يعود بمردود مادي جيد كأتعاب محاماة، وقد يكون جيداً جداً لدى بعض المحامين القادرين على إقناع الخصم برفع كل أنواع الدعاوى الممكنة التي ترفع من وتيرة سقف المواجهة.متابعة لموضوع الطلاق الذي نُشر في ملحق «القوس»، العدد 52، وتحدثنا فيه عن أن الطلاق هو خراب للبيوت وتشتّت للعائلة وضياع للأطفال، ونتائجه النفسية السلبية قد تصل إلى ارتكاب جريمة قتل. سنتحدث في ما يلي عن دور المحامي في هذه القضايا، وهل هو قادر على لعب دور ضابط الإيقاع في الصراع المحتدم بين زوجين قرّرا الانفصال، أم أن دوره يقتصر على مساندة الموكل، ظالماً أو مظلوماً، بعيداً عن أي رؤية شاملة لمصلحة العائلة ككل؟
كم من محام يُستشار في قضية طلاق على سبيل المثال، ويطلب قبل البدء بأيّ إجراء قانوني أن يستمع لطرفَي النزاع محاولاً تقريب وجهات النظر بهدف حل النزاع بينهما بعيداً عن أروقة المحاكم؟ ليسوا كثراً حتماً.
وردني اتصال من سيدة تعرّضت للضرب من زوجها وتريد أن ترفع دعوى طلاق. مدرّسة صاحبة شخصية مستقلة، وأم لثلاثة أولاد. لم تتحمّل ما تعرّضت له بعد عِشرة عمر دامت 19 عاماً.
في بداية الاتصال كان الإصرار على دعوى الطلاق سيّد الموقف. كمحامية متخصّصة في شوؤن الأسرة، ونتيجة الخبرة العملية الطويلة، طلبت من الزوجة لقاء ثنائياً مع زوجها قبل القيام بأي إجراء، ووافقت على طلبي.
لم أكن متأكدة من حضور الزوج في الموعد، لكن فوجئت بحضوره وجلوسه مستمعاً لشكواها بالتفصيل المملّ من دون أي مقاطعة أو اعتراض.
لم يعترض أو ينزعج من أي عبارة نطقت بها، وقد تكون جارحة أمام محامية غريبة عنهما. وعند سؤالي له: ما رأيك بما قالته زوجتك؟ أجاب: كل ما قالته صحيح، أنا أخطأت برفع يدي عليها، ولكنها استمرت باستفزازي حتى أفقدتني أعصابي. بسبب موضوع أكدت لها مراراً وتكراراً عدم صحته، وأنه من محض خيالها، لكن غيرتها قاتلة، وهي بعد 19 عاماً من الزواج مفترض أنها على دراية تامة بطبيعة عملي القائم على العلاقات الاجتماعية، ومن غير المقبول أن تضعني عند كل اتصال أو رسالة من سيدة، في موضع الشك والاتهام، وهي تعلم أنني أعشقها وأنها أم أولادي وسندي، ولا يمكن أن أنظر إلى امرأة سواها. وبدورها، الزوجة أجابت عن سؤالي بأنها تعلم أن زوجها يحبها وأنه صادق في ما يقول.
نذكر هذه الواقعة لنقول إن قضايا الأحوال الشخصية تختلف عن كل أنواع القضايا التي نعمل بها كمحامين، وينبغي أن ننظر إليها بعين القاضي وليس بعين محامي أحد الطرفين، لأنه في هذه المسائل من الصعب جداً الوقوف مع طرف ضد الآخر، متجاهلين أن أسرة بكاملها ستتأثر بارتدادات هذا الصراع. وعلى المحامي أن يقوم بدوره الاستشاري القائم على النصح والإرشاد وتحديد المسؤوليات لكلا الطرفين، قبل الخوض في أي نزاع في حال فشل مساعيه الإصلاحية.
قد يقول البعض إن هذه المهمة ليست من مهمات محامي الدفاع، وهي من مسؤوليات المعالجين النفسيين أو المرشدين الاجتماعيين والتربويين. ولكن أهمية دور المحامي في هذه القضايا تكمن في إحاطته بكلّ القضايا المتعلقة بالشأن الأُسري، والمحكومة منذ نشأتها بالقوانين والأنظمة، فتأتي استشارته ومساعيه متكاملة وواضحة ومحيطة بكلّ جوانب القضية بكل دقة ووضوح.
في مقال الزميلة نائلة نحلة "الطلاق خراب البيوت" (راجع «القوس»، عدد 28 كانون الثاني 2023)، تحدثت عن ضحايا الخلافات الزوجية وعن العلاقات السّامة التي تعيد الكثير من الزوجات إلى العيش تحت رحمة معنّفيهنّ من أجل أن يبقين قرب أطفالهنّ. هذه الحالات علاجها يتطلب تدخلاً قضائياً مباشراً ورادعاً لحماية العائلة، وللمحامي دور مهم في رسم خارطة طريق التقاضي التي تبدأ بالأهم والأخطر وهي حماية الزوجة والأطفال من عنف مباشر وواضح لا لبس فيه، ومن بعدها تبدأ المواجهة التي تتمحور حول الحقوق الشرعية من نفقات وحق حضانة وطلب الطلاق.

في العلاقات الزوجية لا ظالم ولا مظلوم
لنفترض أن محامياً قبِل وكالة زوجة اختلفت مع زوجها لأسباب عديدة، تتنوع بتنوّع أشكال العلاقات وتعدد المجتمعات. معظم المحامين يبدأون بفتح جبهة العنف الأسري، خاصة في حال وجود أي دليل على العنف، وفي بعض الحالات تُقدم شكوى من دون أي دليل، وبطبيعة الحال لن تصل إلى أي نتيجة وتكون مجرد عامل ضغط على الزوج. وهذه إحدى ثغرات قانون العنف الأسري الذي أُقرّ في عام 2014، وتُستتبع شكوى العنف بدعوى تفريق ودعاوى نفقات متنوعة للزوجة والأولاد بكامل فروعها، من مأكل ومشرب وملبس ونفقة طبابة ونفقة تعليم.
هذه الجبهة القضائية، تقابلها بالطبع جبهة دفاع من قِبل الزوج بدعاوى أخرى، فيجد الزوجان نفسيهما منهكيْن بكمّ هائل من النفقات والمصاريف والضغوط المادية والنفسية، يضاف إليها تعقيد وصعوبة ترميم العلاقة، إن كان بالإمكان ذلك، فهل نفاخر بأننا محامو تهشيم العائلات وتفكيكها من دون أدنى محاولة للإصلاح المسبق؟
قد يزعج هذا الكلام بعضاً من الزملاء المحامين العاملين في قضايا الأحوال الشخصية -وإن كانوا قلّة- ولكن من واجبنا الإضاءة على مكامن الخلل من أجل البناء وليس الهدم، ومن أجل تصويب العمل وليس تشويه دور المحامي.
أليس جوهر مهنة المحاماة تقديم الاستشارة والنصح القانوني لتجنيب المتنازعين الوصول إلى المحاكم؟ أليست الاستشارات والمصالحات والاتفاقيات هي أيضاً جوهر مهنة المحاماة وقد تكون من أصعب ما فيها في كلّ المسائل التجارية والمالية والعقارية وغيرها من العناوين، فكيف إذاً لا تكون كذلك في قضايا الأحوال الشخصية؟
نحن أمام أزمة اجتماعية باتت تهدد كيان الأسرة وتنخرها بوسائل شيطانية متعددة، نتعرّض لها من كل حدب وصوب بشكل مباشر وغير مباشر، بهدف ضرب آخر ما تبقّى لنا في هذا الشرق، العائلة.
مهما احتدم الصراع بين الزوجين ومهما وصلت الأمور بينهما إلى طريق مسدود، بوجود الأولاد لا صوت يعلو فوق صوت مصلحتهم وصحتهم النفسية والجسدية والمعنوية، إذ بالإمكان تجنيبهم الكثير من تلك الارتدادات السلبية التي تؤثر عليهم مهما حاولنا تجنيبهم ذلك. من قرّر أن يدخل مؤسسة الزواج وينجب أطفالاً عليه أن يعي سواء أكان محامياً أم قاضياً أم متقاضياً أن تحصين العائلة هو الأصل وليس تسجيل النقاط والتحدي "ومن يكسر رأس الثاني بالأول".

كما نزرع نحصد
كل فعل يقابله ردّ فعل، ولا يمكن أن تكون المسؤولية إلا مشتركة بين الطرفين. خلاف الأزواج لا علاقة للأولاد به، مهما كان الزوج بالنسبة إلى الزوجة، سيئاً وحاقداً وفيه كل الصفات القبيحة التي لم تكتشفها قبل الزواج -وهذا موضوع آخر قد نتحدث عنه لاحقاً- فهو سيبقى أبا أولادها، كما أنها ستبقى أمَّهم.
فتهشيم صورة الأب من قِبل الأم، كما تهشيم صورة الأم من قِبل الأب، جريمة جزائية يرتكبها الوالدان بحق أولادهما، لأنه عنف مقصود تجاههما. وإن كنا في دولة تطبّق القانون وتحترمه، ينتزع حقهما بالأبوة والأمومة، لأنهما بذلك يشكلان خطراً جسيماً على سلامة الأولاد الجسدية والنفسية ولا يستحقان هذا الشرف.
أليس جوهر مهنة المحاماة تقديم الاستشارة والنصح القانوني لتجنيب المتنازعين الوصول إلى المحاكم؟


ما تقدّم لا يعني السكوت عن عنف جسيم وخطر محدق قد يتعرض له أحد طرفي العلاقة، ولا يعني القبول بحياة متوترة ليلَ نهارَ، ولا يعني تنازلاً متكرراً من أحد الطرفين بهدف حماية الأسرة مع استمرار الطرف الآخر في استباحة شريكه. في هذه الحالات، وحده الانفصال يحصّن العائلة ويحمي الأولاد. فمن يدرك أهمية ما سبق وقدّمناه، يمكنه حل المشاكل الزوجية والحفاظ على العائلة المكوّنة من أم وأب (وإن حُلّت الرابطة الزوجية بينهما) وأولاد، يتشاركون مسؤولية تربيتهم، وهذا بالطبع يتطلب درجات عالية جداً من الوعي قد يكون مفقوداً لدى غالبية أفراد مجتمعنا.



الوقاية خير من ألف دعوى
لنتمكن من فهم كيفية بناء أسس العلاقات الزوجية، علينا أن نعمل على صعد عدة تربوية وقانونية وتثقيفية، وأن نتقن فن صياغة العقود وحلّها، وأن نلجأ للاستشارة القانونية والتربوية والأسرية قبل البدء في تأسيس مؤسسة العائلة وخلالها. وإن فشلنا، يجب علينا اتباع الخطوات نفسها لإيجاد الحل.
كلّ العلاقات الزوجية عرضة للانتكاسات لكثرة تعقيداتها، على الرغم من بساطتها أحياناً، عندما تقتصر على زوجين من دون أولاد، إذ تكبر المسؤوليات وتصعب في وجود الأولاد، عندها لا حرج في التمهّل والتبصّر وطلب المشورة من أهل الاختصاص، لحماية الأولاد وعدم زجّهم في المشاكل وما قد تحمله من صَدمات واضطرابات نفسية.