بنت جبيل | يبلغ عدد أفراد الهيئتين التعليمية والإدارية في إحدى مدارس منطقة مرجعيون حوالي 30 معلماً من الموظفين والمتعاقدين، «يقيم أربعة منهم في البلدة نفسها التي يوجد فيها مبنى المدرسة، بينما يقيم العدد الباقي في أماكن بعيدة. أحدهم يقيم في البقاع الغربي، على بعد ما يزيد على 60 كلم ذهاباً، و3 في منطقة صور على بعد ما يزيد على 40 كلم، و5 يقيمون في قرى وبلدات بنت جبيل، التي تبعد حوالي 20 كلم عن مبنى المدرسة» يقول أحد أساتذة المدرسة. وهذا يعني أن نحو ثلث الأساتذة يدفعون كلفة وصولهم إلى مدرستهم مبلغاً يتجاوز رواتبهم. فادي مثلاً، يكلّفه حضوره إلى المدرسة أربعة أيام أسبوعياً ما يعادل مليوناً وأربعمئة ألف ليرة، أي 5 ملايين وستمئة ألف ليرة شهرياً، «وهو مبلغ لا يمكنني تحمّله». يكشف أنه اضطرّ إلى بيع قطعة الأرض الوحيدة التي يملكها خلال العام الماضي، «ولم يبق من ثمنها إلا القليل، كلّ ذلك لعدم وجود البديل وعلى أمل أن تتحسّن الأجور». وإذا كان أحد أهداف الإضراب عادة «الضغط على المعنيين لتحسين الأجور، إلا أنه يحقق في وضعنا هذا هدفاً آخر هو التخفيف عن كاهلنا كلفة النقل إلى المدارس ولو لوقت قصير».
(هيثم الموسوي)

أحد المدرّسين في مهنية بنت جبيل، اتخذ قراره أخيراً بعدم الذهاب إلى المعهد، بعد أكثر من 20 سنة من التعليم المستمرّ فيه، «لقد أصبحت كلفة الانتقال إلى المعهد تقارب 500 ألف ليرة يومياً، في الوقت الذي لم نتقاضَ فيه أجورنا خلال سنتين متواصلتين». يقول المدرّس بحسرة، ذاكراً أنه أصبح وزملاءَه في منتصف العمر، «لم نجن رأسمالاً كي نستثمره للقيام بعمل آخر، كما أن تفرّغنا للتعليم حرمنا من تعلّم أي مهنة بديلة، لذلك بتنا من دون عمل وأجر، وعلينا أن ننتظر عطف الأقارب من المغتربين أو الميسورين لإطعام عيالنا».

خسارة أساتذة
يكشف مدير مدرسة الشهيد راني بزي، المهنية الرسمية، داني سلامي خسارة المدرسة لثمانية معلّمين قدّموا استقالاتهم من ملاك وزارة التربية من أصل 33 معلماً في الملاك، بسبب الأوضاع الاقتصادية. هكذا صارت المدرسة تعتمد بشكل شبه كلي على المتعاقدين الذين يتكلفون عبء الانتقال من أماكن مختلفة، وعدد كبير منهم يتكبّد يومياً ما يزيد على 500 ألف ليرة، بسبب بعد المسافة، وعدم توفر وسائل للنقل المشترك. لكنه يؤكد على أن «صمود هؤلاء المعلمين هو بفضل دعم أقربائهم أو عملهم الإضافي في مجالات أخرى».
بعد 25 سنة من التعليم في المدارس الرسمية في منطقة صور، قرّرت مدرّسة اللغة العربية الحائزة على ثلاث شهادات ماجستير من الجامعة اليسوعية، والمكلّفة في الإرشاد والتوجيه، مهى جعفر تقديم استقالتها من ملاك وزارة التربية، بعدما لم يعد راتبها يكفي بدل انتقالها إلى عملها. تصف جعفر شعورها عندما كانت تقصد المحالّ التجارية التي كانت ترتادها سابقاً، «بتّ أشعر بالغبن وأن هناك من يقصد إذلال المعلم، لذلك قرّرت ترك المهنة بدون حيرة أو ندم». قبل أن تصل إلى هذا القرار عانت من الاكتئاب «بعدما دفعت كلّ ما كنت أتقاضاه سابقاً على تطوير قدراتي ومهاراتي والتعلم في أفضل الجامعات، وجدت أن راتبي لا يكفي بدل انتقال طالبة إلى الجامعة».

مآسٍ يومية
تتحدّث جعفر عن عشرات المعلمين الذين يخافون من ترك مهنة التعليم بسبب عدم وجود البديل، وعن أحد أساتذة مادة الفيزياء، الذي قال لها إنه يفكر كلّ يوم بالانتحار، بعدما أصيب بالاكتئاب وبات يفضّل أن يبقى وحيداً في غرفته، فهو لم يتقبّل أن ينتظر راتب زوجته لتأمين قوت عياله. لذلك ترى جعفر أن «وصول راتب المعلم وربّ الأسرة الى أقل من مئة دولار يعني أن الحكومة تتجه إلى عملية إخصاء اقتصادي للرجل، لأن تكوين الأسرة في مجتمعنا قائم على إنفاق الرجل».
خسرت مدرسة 8 معلّمين من أصل 33 معلماً


الأزمة تطاول الاستشفاء. فقبل أيام اضطرّت إحدى زميلات جعفر، التي تدرّس في إحدى مدارس منطقة صور، إلى إجراء عملية جراحية، لكن راتبها لا يكفي لتأمين 1% من كلفتها، فقرّر زملاؤها التعاون لجمع الأموال وتأمين الكلفة المطلوبة، خصوصاً أن «تغطية تعاونية الموظفين لا تكفي كلفة الفحوص الطبية إن احتاج المريض إلى عملية جراحية».

.. حتى الثياب
يسأل أحد المعلمين في بنت جبيل عن علم رئيس الحكومة بمعاناة المعلمين اليومية، ليس فقط لكلفة الانتقال وعدم قدرتهم على تأمين قوت عيالهم، بل أيضاً بتردّدهم كل يوم، أثناء ارتدائهم لملابسهم، عن الذهاب إلى مدارسهم كونهم سيضطرون إلى ارتداء الثياب نفسها، إذ إن كلفة شراء بنطال واحد تعادل أساس راتب المعلم. ويؤكد أن العشرات من المعلمين من مدارس مختلفة باتوا يتبادلون الثياب في محاولة لتحسين صورتهم أمام تلامذتهم.

المنحوس منحوس!
حاول أحد معلّمي منطقة بنت جبيل تأمين حلّ منفرد لمشكلة كلفة الانتقال إلى مدرسته، فاستدان مبلغ 3500 دولار لشراء باص صغير، ينقل التلاميذ في طريقه. ويعترف بأن القرار لم يكن سهلاً على الإطلاق، لأنه كان ينتقص من هيبته أمام طلابه، ولا سيما عند تحصيل الأجرة منهم. رغم ذلك، خاض المغامرة لكنه تعرّض لحادث صغير اضطره إلى دفع ما يزيد على 5 رواتب والتوقف عن سداد الدين، الأمر الذي جعله يترك مهنته الجديدة.
تجربة موسى سعد، أستاذ مادة الجغرافيا، الحائز على شهادة الدكتوراه في علم الاقتصاد، والمكلف بالإرشاد والتوجيه في ثانويات ومدارس منطقة بنت جبيل الرسمية، ليست أفضل. سعد يقيم في بلدة الشهابية (صور) ويتقاضى راتباً لا يزيد على 3 ملايين ليرة، يدفع ضعفه لكي يصل إلى مدرسته. قرّر البحث عن عمل بديل، فاهتدى إلى بيع الفحم الذي أوقعه بخسائر مالية إضافية، «بسبب ارتفاع سعر الدولار المستمرّ، وانتشار الأنواع الرديئة وغش التجار». يفضّل سعد اليوم تقديم استقالته، لكنه ينتظر الفرصة البديلة. ويقول: «أنا أعتمد اليوم على غيري من الأصدقاء وأصحاب الأيادي البيض».