إن صرخة ذوي ضحايا انفجار 4 آب 2020 وارتفاع نبرة الحريصين على العدالة وعدم الإفلات من العقاب محقَّة بسبب استمرار تعطُّل التحقيقات القضائية وتجميد عمل المحقق العدلي. كما أن غضب الناس من عدم وجود ملاحقة قضائية جدية للمسؤولين عن حرمان المودعين في المصارف من استرداد أموالهم مبرر ومشروع. ولم تؤدِّ التحركات الاحتجاجية في الشارع وأمام قصر العدل إلى نتيجة بناءة، بل وقعت صدامات، وحصلت توقيفات، وزادت التوترات من دون أن تعيد الأمور إلى نصابها. ومع استمرار التحريض والتوتر، يزيد الشرخ بين الناس وتنتقل أكثر فأكثر قضيتا المرفأ والمصارف من غرف التحقيق إلى حلبة الصراعات السياسية والطائفية والمعارك الفئوية. ومع حضور الوفود القضائية الأوروبية إلى بيروت للاطلاع على معلومات والاستماع إلى شهود في القضيتين، يتأمل البعض أن ذلك سيؤدي إلى ملاحقة جدية للمسؤولين عن مقتل وأذية آلاف البشر وحرمانهم حقوقهم وأملاكهم. لكن مهلاً.. قد يكون مفيداً للجميع في لبنان التعرف بداية إلى الزوار الأجانب ومراجعة بعض ملفاتهم القضائية السابقة من دون أي حكم مسبق بشأن أدائهم وأخلاقياتهم.
إن جنسية القاضي ليست أساساً لقياس أخلاقياته وعدالته كما شرحنا في العدد السابق من "القوس"، في مقال "الأجانب في قصر العدل واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد”. لكن لا بد من التنبُّه إلى أن للسلطة السياسية في باريس وبرلين ولوكسمبورغ دور في زيارة الوفود القضائية الأوروبية إلى بيروت، وإن تحريك الملفات القضائية خارج بلادهم يستدعي قرار سياسي لا بد من أن يتماشى مع سياستها ومصالحها الخارجية، أو على الأقل يفترض ألا يتناقض معها. فلهذا السبب تحديداً تضمنت الاتفاقية الدولية بند يجيز "رفض تقديم المساعدة القانونية المتبادلة إذا رأت الدولة الطرف متلقية الطلب أن تنفيذ الطلب قد يمسّ بسيادتها أو أمنها أو نظامها العام أو مصالحها الأساسية الأخرى" (المادة 46 الفقرة 21 البند ب).
نعرض في الآتي بدايةً بعض المعلومات عن القضاة الفرنسيين، أود بوريسي التي تنظر في الملف المالي، ونيكولا أوبيرتان وماري كريستين أديار اللذان ينظران في ملف انفجار المرفأ.

القاضية أود بوريسي
لاحقت الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي في قضايا فساد
حققت في «احتيال» الجبهة الوطنية الفرنسية
رافقت شرطة العدو الإسرائيلي أثناء قيامها بمداهمات داخل فلسطين المحتلة

قاضية التحقيق الفرنسية أود بوريسي التي أصدرت قراراً بالحجز على أملاك (حاكم مصرف لبنان) رياض سلامة، هي من يقود التحقيقات المباشرة وتتولى توجيه الأسئلة بواسطة القاضية ميرنا كلاس فيما يتولى بقية الأعضاء تدوين الإجابات كما ورد في عدد الأخبار (الثلاثاء 17 كانون الثاني 2023 العدد 4826) من ملف “متاهة رياض سلامة”.

القذافي وساركوزي


الوزير المزور الى اليمين والاصلي الى اليسار

إن مراجعة بعض القضايا التي تولتها القاضية الفرنسية يدل على نوعية أدائها وأخلاقياتها ورؤيتها. وقد جمعنا معلومات عن ملفات التحقيق الذي قامت به بشأن تدخل المدير السابق للمخابرات الداخلية الفرنسية بيرنار سكوارسيني في العمل القضائي وضلوعه في الفساد عام 2013. وقد تمكنت القاضية من كشف الشبكة التي يقودها والتي تعمل لصالح الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي. وقد حققت بوريسي أيضاً في قضية تمويل معمر القذافي لحملة ساركوزي الانتخابية في العام نفسه، كما حققت في قضية احتيال لتمويل الجبهة الوطنية في فرنسا عام 2016. وفي عام 2017، قادت بوريسي التحقيق في قضايا فساد الجمارك الفرنسي. تشير نوعية هذه القضايا إلى جرأة القاضية وتصميمها على متابعة مسار التحقيقات بجدية من دون أن تدفعها ضغوطات من قِبل أصحاب النفوذ في السياسة والأمن والأعمال إلى التراجع عن مضيها بالاشتباه بضلوع أشخاص يشغلون مناصب رفيعة وحساسة في المجتمع والدولة الفرنسية في أعمال جرمية.


لكن قد تكون علاقة القاضية بالعدو الإسرائيلي أكثر ما يهمنا في لبنان. إذ تبيَّن أن القاضية الفرنسية عملت بالتنسيق مع وحدة 433 الإسرائيلية (وحدة ضمن شرطة العدو تسمَّى وحدة "لاهاف" متخصصة بـ"مكافحة الجريمة المنظمة") في قضية فرنسيين وإسرائيليين تهرَّبوا من دفع الضرائب في فرنسا بين عامي 2006 و2008، وتبيَّن لاحقاً أنهم ضالعين في جرائم تبييض أموال. واللافت في الأمر قيام القاضية بوريسي عام 2015 بمرافقة ضباط وعناصر وحدة "لاهاف" ووحدة من الأنتربول الفرنسي أثناء قيامهم بمداهمات داخل فلسطين المحتلة (في منطقة هرتزيليا بيتواه).
تمكنت القاضية من كشف الشبكة التي يقودها والتي تعمل لصالح الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي


عادت بوريسي إلى "إسرائيل" في نيسان 2016 للتوسع في التحقيق، حيث استمعت إلى إفادات 15 شخصاً. وتبيَّن لاحقاً أن الجرائم المرتكبة تتضمَّن تزوير وغش واحتيال، إذ إن أشخاص فرنسيين وإسرائيليين موجودين في فلسطين المحتلة كانوا يتواصلون هاتفياً مع مستثمرين في فرنسا (من دون أن يكشفوا لهم أنهم خارج فرنسا) ليقنعوهم بتحويل أموال عبر مصارف أوروبية تُشغّل في بورصة العملات واعدين بأرباح كبيرة. وبالحقيقة، تُحوَّل الأموال بطريقة احتيالية إلى مصارف في "إسرائيل" وسنغافورة وجورجيا قبل أن تُنقل إلى حسابات "أوف شور" في جزر سيشل وبيليز وغيرها حيث يصعب تعقبها. وقد بلغ حجم الأموال المجنية جنائياً في هذه القضية نحو 105 مليون يورو.

قضية الإسرائيلي جيلبير شكلي
بعد إجراء مزيد من البحث تبيَّن أن القاضية بوريسي حققت في قضية جنائية خطيرة تخصّ الإسرائيلي جيلبير شكلي، الذي انتحل صفة وزير الدفاع الفرنسي السابق جان إيف لودريان، من خلال استخدامه قناع مطابق لوجه لودريان مصنوع من السيليكون. وقد تمكن شكلي من جمع مبالغ طائلة من خلال ضروب الاحتيال وانتحال صفة الوزير، إذ إنه اتصل مثلاً برئيس جمهورية الغابون علي بونغو في تموز 2015 طالباً منه تحويل مبلغ 10 مليون يورو إلى حسابات مصرفية في الصين وفي بولندا في إطار "عملية سريَّة". كما اتصل شكلي بالزعيم الروحي الإسماعيلي الآغا خان طالباً منه بصفته وزيراً فرنسياً تحويل 20 مليون يورو إلى الحسابات نفسها. وفي تشرين الثاني 2016 أقنع شكلي إحدى أكبر الأثرياء الأتراك إيمان كيراك بتحويل مبلغ 47 مليون دولار إلى حسابات في الصين والإمارات العربية المتحدة من أجل تحرير صحافيين فرنسيين من الأسر. وكان شكلي يظهر عبر شاشة "سكايب" مستخدماً القناع ليوهم من يتصل بهم بأنه فعلاً الوزير الفرنسي لودريان.
وقد قبض على جيلبير شكلي في أوكرانيا عام 2017 وأُحيل إلى المحكمة الباريسية للمحاكمة.

هل سرَّبت بوريسي معلومات سريَّة؟
القضية تتعلق بتزوير لوحات فنية مشهورة عام 2015 وبيعها بمبالغ كبيرة. وقد حققت القاضية بوريسي في القضية وتبيَّن أن لوحة بريشة الألماني لوكاس كراناش تُعرف باسم فينوس بالحجاب (La Vénus au voile) تم تزويرها وبيعها لأمير ليشتنشتاين بقيمة 7 مليون يورو.
واشتبه بالإيطالي المعروف بجمع اللوحات الفنية الشهيرة، جوليانو روفيني، بأنه كان على علم بالتزوير وقد يكون مشاركاً فيه. لكن روفيني تقدم أمام النيابة العامة في باريس بشكوى ضد القاضية أود بوريسي مدعياً أنها كشفت معلومات سريَّة تتعلق بالتحقيق في هذه القضية. وأحيلت الشكوى إلى التحقيق بعد نقلها إلى محكمة بوبيني لكنها لم تستكمل. وقد برر أحد القضاة (من دون أن يعلن اسمه) لـ"آر تي إل" عدم السير بالإجراءات في هذه القضية بقوله إن أي تحقيق في فرنسا عن خرق القاضي للسريَّة "نادر للغاية" (Rarissime).
ورد أخيراً أن القاضيان الفرنسيان نيكولا أوبيرتان وماري كريستين أديار، اجتمعا بالمحامي العام صبوح سليمان قبل أن يعقدا اجتماعاً مطولاً مع قاضي التحقيق في ملف المرفأ طارق بيطار. حضر القاضيان إلى بيروت لاستكمال ملف تحقيق في شكاوى تقدم بها إلى النيابة العامة الفرنسية أشخاص يحملون الجنسية الفرنسية تضرروا من انفجار 4 آب 2020. ونعرض في الآتي بعض المعلومات عن القاضيان من دون أي أحكام مسبقة بشأن أدائهما وأخلاقياتهما.

القاضية ماري كريستين أديار
تمنع الملاحقة في قضية إصابة آلاف بـ«الأسبستوس»
خاب ظن ضحايا انفجار «شارع تريفيز» من أدائها

تولت القاضية ماري كريستين أديار عدداً من القضايا البارزة التي تتعلق بالصحة العامة في فرنسا ومنها قضية استخدام شركة فرنسية كميات كبيرة من مادة الأسبستوس الخطيرة في مرفأ دونكيرك لحماية السفن من حوادث الحريق، وعدم اتخاذ الإجراءات المناسبة لشفط غبار الأسبستوس؛ إذ إن تنشقه يؤدي إلى الإصابة بمضاعفات صحية خطيرة.

انفجار شارع تريفيز كانون الثاني 2019

لكن أديار قررت التمنع عن ملاحقة والتحقيق مع المسؤولين عن الإهمال الجنائي المحتمل الذي أدى إلى إصابة مئات الضحايا، وردت الملف يوم 20 نيسان 2021 بحجة عدم كفاية الدليل. لكن يشتبه بأن رد هذه الشكوى يتعلق بقرار مركزي اتخذته السلطات القضائية الفرنسية برد قضايا أخرى مشابهة مثل قضية "إيفريت" التي رُدت في 20 كانون الثاني 2021، كما ردت المحكمة الاستئناف الذي قدمه الضحايا في 8 آذار 2021. وبالتالي، فإن قيام أديار برد قضية "نورميد" كان متوقعاً استناداً إلى خلاصات غرفة الاستئناف في قضية مماثلة. لم يقتنع الضحايا ووكلائهم القانونيين بالحجج وطالبوا بإعادة النظر وأشاروا إلى أن الملف يحتوي على عددٍ من القرائن والأدلة التي تشير إلى أن كميات الأسبستوس التي استخدمتها الشركة كانت كبيرة جداً، ولا يمكن تبرير ذلك علماً أنها تشكل خطراً قاتلاً على كل من يتنشقها.
وتم تأسيس جمعية وطنية للدفاع عن ضحايا الأسبستوس في فرنسا نظراً لعدد الضحايا الذي يفوق المئات.


وأعربت الجمعية عن أسفها لقرار القاضية أديار، مشيرة إلى أن المسؤولين في الشركة كانوا قد تلقوا تحذيرات من خطر استخدام الأسبستوس على صحة العمال لكنهم لم يأخذوا تلك التحذيرات على محمل الجد. كما طالبت الجمعية بإعادة قراءة التقرير الفني الذي وضع بهذا الشأن والذي يشير بوضوح إلى إصابات العمال في المرفأ بمرض سرطان الرئة بعد تنشقهم غبار الأسبستوس.

خيبة ضحايا انفجار «شارع تريفيز»
كُلفت القاضية أديار بالتحقيق في انفجار أنابيب غاز وقع صباح يوم 12 كانون الثاني 2019 في شارع تريفيز في باريس، أدى إلى مقتل أربعة أشخاص وإلى جرح 66 شخص وتضرر نحو 400 شقة سكنية، حيث بدى مكان الانفجار يومها أشبه بساحة حرب. ختمت أديار التحقيق في شهر كانون الأول 2021. ووصف ذوي ضحايا الانفجار قرار ختم التحقيق بأنه قرار "غير مفهوم". وكانت أديار قد اشتبهت بداية ببلدية باريس ونقابة مالكي المبنى بأنهما يتحملان مسؤولية قتل وجرح عدد من الأشخاص بسبب الإهمال والنقص في الصيانة وفي إجراءات الوقاية من الحريق. جاء التقرير الفني الأول عام 2019 والتقرير الفني الثاني عام 2020 ليدعما اشتباه أديار، وبالتالي لم يُفهم ختم القاضية (وزميليها) التحقيق من دون إحالة المشتبه بهم إلى المحاكمة.
لكن بعد ختم التحقيق، تقدم وكلاء ذوي الضحايا بطلب إعادة فتح التحقيق أمام محكمة الاستئناف. وفي 30 آذار 2022 تم إعادة فتح الملف ومباشرة التوسع في التحقيق القضائي.

القاضي نيكولا أوبيرتان
اشتبه بمدير «الإليزيه» واليد اليمنى للرئيس ماكرون بالضلوع في الفساد
اتهم القضاء الألماني بعدم التعاون مع التحقيق في قضية غش وتزوير

أحد أبرز وأحدث القضايا التي تولاها القاضي نيكولا أوبيرتان تتعلق بالاشتباه عام 2022 بضلوع أحد أقرب المقربين إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ومدير عام "الإليزيه" أليكسيس كوهلر في جرائم الفساد. كوهلر الذي يُعد اليد اليمنى لماكرون مشتبهاً به بـ"الاستفادة بشكل غير مشروع"، بصفته موظف رفيع في الدولة، من خلال أعمال قام بها بين عامي 2009 و2016 تخص شركة سفن بحرية إيطالية-سويسرية تدعى "إم إس سي" يديرها أولاد عم والدته (من عائلة أبونت). واستمع القاضي إلى كوهلر يومي 22 و23 أيلول من العام الماضي.

ماكرون و كوهلر

وتبيَّن لأوبيرتان ولزميلته القاضية فيرجيني تيلمون أن كوهلر كان يسعى إلى تأمين مصالح شركة "إم إس سي" خلافاً للقانون، إذ إن ذلك يشكل تضارب مصالح. ويرِدُ في الملف شك بوجود مستندات مفقودة أو ناقصة تشير إلى طبيعة العلاقة بين الرئيس ماكرون وكوهلر وعائلة أبونت. وقد علَّق كوهلر أخيراً على ذلك قائلاً: "لست مسؤولاً عن الأرشيف".
استجوب القاضي أوبيرتان الأخير لنحو 15 ساعة واشتبه به بارتكاب جريمة فساد يعاقب عليها القانون الفرنسي بالحبس لمدة خمس سنوات بغرامة 500 ألف يورو. القضاء الفرنسي ما زال يتابع القضية بينما أعلن الرئيس ماكرون أن الإبقاء على كوهلر في الإليزيه "شرعي تماماً".

قضية «ديزلغايت» وشركة فولكسفاغن
في العام 2015 بدأت تتكشف أعمال غش واحتيال وكذب قامت بها شركة فولكسفاغن الألمانية من خلال تزوير قياس حجم التلوث الذي تحدثه السيارات التي تنتجها. وتبيَّن أن الشركة الألمانية الضخمة استخدمت آلية غش الكترونية تشير إلى معلومات مغلوطة أثناء فحص السيارات. وبما أن عدد كبير من هذه السيارات يباع في فرنسا، فُتح تحقيق قضائي في النيابة العامة الباريسية. غير أنه بعد مرور سنوات على ذلك، لم يتقدم الملف بسبب عدم تعاون القضاء الألماني وشركة فولكسفاغن.


رفع القاضي نيكولا أوبيرتان وزملائه الصوت عام 2018 وأرسلوا كتاب إلى أطراف القضية عبَّروا فيه عن خيبة أملهم في تقدم التحقيقات بسبب عدم تعاون القضاء الألماني. وقال أوبيرتان إنه تمكن مرة واحدة من الاستماع إلى شاهد واحد من شركة فولكسفاغن عام 2017 ولم يحصل أي تعاون بعد ذلك، بل أمعن الألمان في التهرُّب من التحقيق. "تحقيقاتنا رهن حسن نيَّة السلطات القضائية الألمانية" قال أوبيرتان وزميلتاه القاضيتان كارول راميه وسيلفي موشيل.