تجلس منى بوجهها الشاحب إلى جانب والدتها التي تقيم عندها منذ لحظة توقيف أحمد، أكبر أبنائها الذي لم يبلغ السابعة عشرة، بتهمة سرقة دراجات نارية. تحاول منى، بصعوبة، استعادة لحظات لقائها الأول بابنها بعد توقيفه. تقول: «بعد كل زيارة أشعر أن ملامحه تتغير، صاير ضعيف وتعبان، الكبير ما فيه يتحمل يقعد بهيك مكان، كيف إذا كانوا أطفال؟»صعوبات جمّة تواجه ذوي الأحداث، تبدأ من توكيل محامٍ، تأمين الكفالة المالية وارتفاع كلفة النقل. تشير منى إلى أن «المشوار من الجنوب إلى سجن رومية يكلفني أكثر من مليون ليرة أجرة تنقّل وثمناً للأطعمة والأدوية، وأحياناً لا أتمكّن من رؤيته». تضيف بحسرة: «المهم يطلع بخير». لا تنكر منى أن ابنها ارتكب جرم السرقة، لكن «ابني بعدو ولد انضحك عليه متل كتير ولاد»، وتصب غضبها على الأوضاع التي أوصلته إلى هذا الطريق. فالأزمة الاقتصادية دفعت بزوجها إلى السفر بعدما خسر وظيفته، ما أفقدها السيطرة على ضبط سلوك ابنها وانجراره خلف رفاق السوء.
أما نادية فلم تتمكن من زيارة ابنها أمير بعد توقيفه بتهمة سرقة أحد المحال التجارية. كلفة قطع المسافة بين عكار ورومية حالت دون ذهابها إلى السجن. لكن الأرملة المريضة تؤكد أنها لم تهدأ من أجله، وتلقت وعوداً بالمساعدة من جمعيات عدّة. إلا أن قلق نادية وخوفها يزدادان يوماً بعد آخر ليس فقط على صحته التي بدأت تتدهور منذ لحظة احتجازه بسبب إصابته باضطرابات تنفّسية، إنما خوفا من إطالة مدة توقيفه ونقله إلى سجن الكبار قبل محاكمته.
إلى جانب الموقوفين والمحكومين من لبنان، يزدحم مبنى الأحداث بنزلاء من الجنسية السورية، دفعتهم ظروف الحرب إلى ترك بلدهم والعمل حتى ساعات الليل المتأخر في الشوارع، فتحولوا من ضحايا إلى «مجرمين».
غادة، والدة أحد هؤلاء الأطفال الذين فقدوا الأمن والأمان، ولم يحصلوا على فرصة التعليم فانجرّوا خلف متاهات الأعمال الإجرامية وترويج المخدرات. لم يبق لغادة مَن يعيلها، حتى إنها خسرت عملها في تنظيف البيوت، لأن «بطّل حدا يشغلني، صاروا يخافوا مني».

«أمّنا بتلمّنا»
بعد توقيف «الحدث» داخل مراكز الاحتجاز، تبدأ مرحلة إدراك خطورة ما أقدم عليه، مرحلة دقيقة تتطلب درجة عالية من الوعي عند الأم لِما لها من تأثير كبير في توجيه سلوك ابنها ومساعدته على إعادة الاندماج في المجتمع. وتختلف مستوى الاستجابة، تبعاً لعوامل عدة من ضمنها سن الطفل ومستوى نضجه، إضافة إلى القيم التي يحملها الوالدان. كما أن مراعاة التوازن بين توجيه اللوم وتحمّل المسؤوليّة والدعم من جهة أخرى، لها أهمية كبيرة في عملية التأهيل.
في البدء، تساهم الزيارات العائلية في تقديم الدعم النفسي للحدث وتخفف عنه عبء تواجده داخل الأسوار. كما أن التواصل يسهل إعادة اندماجه في البيئة الخارجية بعد انقضاء مدة حكمه.
ثانياً، قد يتطلب الأمر من الأم التعاون مع أخصائيين اجتماعيين وإشراكها في عملية التأهيل داخل السجن، وهي من أهم المراحل التي تحفّز الحدث على التطور وتحسين مستواه التعليمي والسلوكي.
ثالثاً، الاستعداد لخروج الحدث يبدأ من داخل السجن عبر توطيد العلاقة بينه وبين أسرته، وتأهيله لمواجهة كلّ التحديات، كما أن للأم دوراً في إبعاده عن البيئة الإجرامية وتأمين الحماية له بعد خروجه.

الوصمة الاجتماعية
لا شك أن ارتكاب أحد أفراد العائلة لجرم ما يصيب بقية الأفراد بالوصمة والعار. فكيف إذا كان هذا المرتكب طفلاً! هنا تطرح الفرضيات نفسها، وتحمّل الأم وحدها دون غيرها ذنب الجرم، ويُحكم عليها بعبارة «ما عِرفت تربّيه».
تشير ليلى شمس الدين، الباحثة في الأنثربولوجيا، إلى النتائج السلبية التي تلحق بالوالدين اللذين يكون ابنهما رهن الاحتجاز. «على سبيل المثال، يمكن أن يتسبّب ذلك في شعور الوالدين بالعزلة والخجل، ما قد يؤدي إلى الضيق العاطفي ومشكلات في الصحة النفسية وأحياناً العقلية. إلى جانب ذلك، فإن وصمة العار قد تجعل من الصعب على الوالدين إيجاد الدعم والموارد لمساعدة ابنهما أثناء وجوده في الاحتجاز، وقد يؤدي حتى إلى التمييز في مجتمعهم».
في سياق متّصل، تؤكد شمس الدين أنه «يمكن أن يكون ابتعاد الوالدين عن أحبائهما أمراً صعباً للغاية ويمكن أن يؤدي إلى الشعور بالفقد والحزن. كما يمكن أن يكون العبء المالي لإعالة أحد أفراد الأسرة في السجن كبيراً، حيث الحاجة إلى دفع الرسوم القانونية، وأجور النقل، والنفقات الأخرى».
الزيارات العائلية تساهم في تقديم الدعم النفسي للحدث وتخفف عنه عبء تواجده داخل الأسوار


ولتخفيف هذه الأعباء على الأم، لا بد لها من اتّباع بعض الخطوات التي تساعدها على تحمّل وطأة هذه المرحلة. أولاً، «قد يكون من المفيد تثقيف نفسها حول نظام الأحداث والقوانين والسياسات المحدّدة التي تنطبق على حالة ولدها.
ثانياً، يمكن للأم أن تطلب الدعم من آباء آخرين الذين مرّوا بتجارب مماثلة، أو من خلال جمعيات مختصّة تقدّم الدعم في مثل هذه المواقف.
ثالثاً، يمكن للأم أن تعتني بنفسها وتطلب الدعم لتخفيف الأعباء والضغوطات النفسية التي لحقت بها. وقد يشمل ذلك منافذ صحية لتفريغ الضغوطات التي تعيشها، مثل العلاج أو مجموعات الدعم».

أفضل الشرور
تتمثل الصورة النمطية للسجن -خاصة عند الأطفال- في تكوين صورة قاتمة عمّا يحدث خلف القضبان، تعمل على ردعهم عن ارتكاب الأفعال الجرمية خوفاً من الدخول إلى هذا العالم، وزادت هذه الصورة سوداوية، في الآونة الأخيرة، بعد انتشار خبر هرب بعض المساجين من أوضاع مأساوية لا يقوى البعض على تحمّلها.
رغم ذلك، يبقى الامتثال للقانون أهون الشرور. ويبقى للأهل، وبخاصة الأم، دور في دعم أبنائهم وتوعيتهم في حال تعرضوا لخطر ما.
«ابني مظلوم». بهذه الجملة تختصر ليال ما حدث مع ابنها محمد. تهدأ قليلاً وتسرد ما حصل في تلك الليلة بعد عودته من العمل في بيروت عند أحد أقاربه. تقول: «ما كان مبيّن عليه شي، بعد وقت قصير دق التلفون وخبرونا أنه محمد ضرب زميله بالعمل وأن الأخير دخل في غيبوبة». طوال الوقت كان محمد يصرخ «ما عملت شي وما بدي فوت عالحبس». حاولت والدته إقناعه بتسليم نفسه ومساعدته في إثبات براءته، لكنه في الطريق إلى المخفر غافلهم وهرب من السيارة.
محمد، سيبقى «مجرماً» في عيون كثيرين، رغم كونه ضحية اعتداء من أحد أقاربه، ما اضطره إلى المدافعة عن نفسه، كما تقول والدته. لكن براءته لن تثبت طالما بقي فارّاً من وجه العدالة.



كي لا تتكرر
إذا كانت «الوقاية خيراً من قنطار علاج»، فإن حماية الأطفال والمراهقين، ومراقبة سلوكهم، وتحسين البيئة الاجتماعية، إضافة إلى تأمين حقهم في التعليم، تساهم في إبعادهم عن الانحراف السلوكي. هذه المسؤولية تتضاعف في حال وجود ميول انحرافية عند أحد الأطفال أو في حال ارتكابه أفعالاً جرمية، فيصبح من الضروري للأم مراقبة سلوك أطفالها الآخرين خوفاً من تأثرهم وانجرارهم إلى البيئة الإجرامية نفسها.