العشوائية وعدم الوضوح صارا من سمات وزارة التربية في الفترة الأخيرة، حيث لم يعد بإمكان المعلمين والمعلمات الوصول إلى مراكز عملهم، وهو شرط أساسي لتحقيق حق الوصول إلى التعلّم. لم تصدُق الحكومة يوماً بوعودها، والبعض يريد تحميل المعلمين وزر تعثر عام دراسي رابع. فمن غير المنطقي أمام عجز المعلمين عن التنقل وتأمين الغذاء والدفء لأسرهم، أن نطالبهم بالحضور إلى مراكز عملهم، علماً أن الأموال المتدفّقة على التعليم بمقدورها أن تجعل حياتهم وحياة التلامذة أكثر أماناً ودفئاً.بحسب البنك الدولي، تشكل موازنة وزارة التربية للتعليم ما قبل الجامعي من رواتب وملحقاتها للملاك والمتعاقدين وموظفي الوزارة نحو 64% من اعتمادات الوزارة، فيما توزع 21% على المنح المدرسية، و6% على الأبنية والإنشاءات، و2% على المركز التربوي للبحوث والإنماء، و7% على المدارس شبه المجانية. أما المبلغ فهو نحو 1.6 ألف مليار ليرة للسنوات السابقة من دون احتساب المنح والمساعدات المختلفة من الدول المانحة.
بعد عام 2019، واشتداد الأزمة المالية وانهيار العملة صار متوسط العملة الوطنية نحو 28 ألف ليرة للدولار الواحد، ويمكن القول إنه خلال السنوات الثلاث الماضية تقلّصت موازنة التعليم ما قبل الجامعي بالعملة الأجنبية إلى 58 مليون دولار فقط، تبلغ حصة الرواتب منها 35 مليون دولار، وكنا قد سمعنا في العام الماضي عن المساعدة البريطانية بقيمة 37 مليون دولار التي قُضمت بسعر المنصة وضياع بعضها في النظام الإلكتروني المعطل، و30 مليون دولار لهذه السنة.
تُضاف إلى ذلك، الأرقام المخصّصة للإنشاءات والتي نشرها مركز الدراسات اللبنانية، وهي 270 مليون دولار خلال خمس سنوات، وحصة المدارس المجانية التي تمتنع الدولة عن تسديدها والمركز التربوي المموّل من مشروع S2R2 عدا امتناع الدولة عن تسديد حصتها للضمان الاجتماعي وغيره. فعلياً، يتعذّر تمويل الجامعة اللبنانية فقط.
هذا يعني بصورة واضحة وصريحة أن الدولة لا تنفق على التعليم من خزينتها، بل من قيمة رواتب المعلمين والمعلمات، وأن المساعدات التي تصل إلى 250 -300 مليون دولار للتعليم سنوياً تكفي رواتبَ مدعومة لسائر الموظفين والمتعاقدين.
وبحسبة بسيطة، تتلقى مدارس بعد الظهر نحو 100 مليون دولار (بسعر 28 ألف ليرة للدولار)، ولدينا نحو 5500 مستعان بهم للتعليم، وتبلغ حصة المعلم/ة 40 ألفاً، أي أن مجموع الإنفاق على تعليم بعد الظهر لا يتعدى 5 ملايين دولار رواتب لكلّ المستعان بهم، يُضاف إليها مصارفات تشغيلية. ولا يمكن أن يتعدى إنفاق المدارس بعد الظهر 20 مليون دولار في السنة الدراسية. هناك على الأقل 80 مليون دولار من المفترض أن يذهب القسم الأكبر منها لرواتب المعلمين تقضمه الدولة لتموّل خزينتها.
المعلمون والمعلمات يموّلون خزينة الدولة، فالرواتب والمساعدات المخصّصة لهم تتحوّل إليها لتمويل مجموع رواتب الإدارات العامة أو جيوب البعض. فلا مصادر تمويل وجباية وإيرادات في الدولة اللبنانية إلا قطاع التربية والتعليم من الجهات المانحة كذلك الصحة والدعم الاجتماعي لوزارة الشؤون المتعثرين. لكنّ المساعدات الأكبر حجماً تأتي لقطاع التعليم وقد تجاوزت 2.1 مليار دولار منذ عام 2016.
لا بد للحكومة والسياسيين أن يدركوا أن تعثر العام الدراسي للسنة الرابعة سيعطل تدفق أموال دعم التعليم، ولن يكون بمقدورهم تمويل مسيراتهم السياسية الفاسدة ولا التحكم بمصائر العباد، بل عليهم أن يقفوا تبجيلاً للمعلمين والمعلمات ويغدقوا عليهم بالمساعدات، فبسببهم يحصل الوزراء والنواب على رواتب كما الزعماء على سلطتهم ونفوذهم.

*باحث في مركز الدراسات اللبنانية