مضت أكثر من ثلاث سنوات على الانهيار. في النصف الأول من 2019 بدأت تتّضح معالم السرقة الكبرى. أكثر من 150 مليار دولار مودعة لدى القطاع المصرفي تبخّرت في لحظات. لم تخسرها المصارف في البورصة، ولا في مشتقات مالية مركّبة كالتي أودت بمصارف أميركية كبرى في نهاية 2008، إنما استهلكت على مدى سنوات. بالأجنبي تسمّى «بونزي». لا مرادف واضحاً لهذه الكلمة، إنما هي تعني أن جهات ما (المصارف ومصرف لبنان) جمعت أموالاً من الزبائن (المودعين) مقابل فوائد باهظة، وكانت تبذّر هذه الأموال بطرق شتّى، فتقوم بشكل دوري بجمع مزيد من الأموال لتسديد الفوائد والأصل. وكلما اتّسعت دائرة الزبائن، اضطرّت هذه الجهة الى دفع مزيد من الفوائد، وجمع مزيد من الأموال لتسديد الفوائد... غالبية الأموال التي جُمعت كانت بالدولارات الحقيقية التي سرعان ما حوّلتها المصارف ومصرف لبنان إلى ليرات محلية بسعر صرف ثابت. مقابل هذه الأموال، كان يتم توزيع الأرباح للمصارف، وللتجار مع استحواذ المحتكرين منهم على النسبة الأكبر، ويتم بواسطتها أيضاً تمويل الاستهلاك العام والخاص، وكل ذلك بموافقة السلطة السياسية... فجأة، انتبه الجميع أنه لم يعد بالإمكان جمع الأموال، فاضطرّت الجهات التي تجمع الأموال إلى إعلان إفلاسها بشكل ملتبس.القصّة لم تنته بعد، بل بدأت. فقد بات واضحاً للعيان أن أموال الزبائن سُرقت. وأن هناك مَنْ استغلّ منصبه لتحقيق مصالح ذاتية ولفئات محدّدة. وفي بنية هذه المنظومة السارقة، اختلط العام بالخاص. كان القطاع الخاص (أصحاب الرساميل) يتّهم القطاع العام، نظرياً، من دون تسمية أحد، بأنه فاسد وأن العاملين فيه يستحقون السجن. بينما القطاع الخاص نفسه كان يتربّح من المال العام وبتشريعات يرسمها رجل الدولة، وكان يقدّم الرشى بشكل جماعي أحياناً. و«رجال الدولة» كانوا شركاء فعليين مع أصحاب الرساميل.
بعد الانهيار، انفصل هؤلاء عن بعضهم البعض. فجأة، بدأت المصارف، بوصفها الجناح الأقوى في بنية النظام الفاسد، بالتململ من «رجال الدولة». انفضّت شراكاتهم قسراً لأن المصارف ظنّت أنها ستكون الفريسة الأولى التي سيضحّي بها هؤلاء من أجل إنقاذ أنفسهم، ولأن هؤلاء السياسيين كانوا يبحثون بالفعل عن أضحية تنقذهم من فوران الشارع.
في هذا الوقت، تدخّل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. الرجل الوحيد الذي يحمل صفة تشريعية وتنفيذية وقضائية ضمن هذا الهيكل. هوجم في الشارع، لكنه قرّر مواجهة كل الاتهامات بـ«الإنكار التام». بالفعل، هذا ما حصل. استعاد سلامة، بغطاء السلطة، الصورة التي رسّختها السلطة سابقاً: هناك فساد ناتج من ممارسات لصوص ومختلسين ومنتفعين. مجرّد أعمال فردية، أو عصابات صغيرة من الطبقات الوسطى والفقيرة لا تمتّ بصلة للطبقة التي ينتمي إليها، إلى جانب رجال السلطة وأصحاب الرساميل. فجأة، لم تعد هناك مصارف سارقة، ولا خسائر في ميزانية مصرف لبنان، بل «فجوة مالية». الخطّة التي أقرّتها حكومة حسان دياب، بناءً على جهد مجموعة كبيرة بدأت مع أحمد جشّي، وانتهت مع ألان بيفاني، أشارت إلى وجود «خسائر» بقيمة 241 تريليوناً محسوبة على أساس سعر صرف يبلغ 3500 ليرة لكل دولار.
لم يطل الأمر طويلاً حتى أسقطت هذه الخطّة في مجلس النواب. بعدها، تولى سلامة زمام الأمر من خلال إمساكه بالتمويل. فالأموال الوحيدة المتاحة للاستعمال وتغطية الحاجات المحلية التي يأتي بمعظمها من الخارج، يديرها هو في محفظته. وهو يدير أيضاً التدفقات الآتية من الخارج، والهاربة إلى الخارج أيضاً. فجأة، لم يعد هو عدوّ الشعب الأول، بل عاد إلى مرتبته السابقة كقناة توزيعية للأموال. فضّل سلامة أن يمنح الدولارات لمستوردي المشتقات النفطية، وأن يتوقف عن منحها لمؤسسة كهرباء لبنان، ما أدّى إلى توقف معامل إنتاج الكهرباء وانخفاض التغذية إلى حدود ساعة يومياً، والاعتماد بمعدل 12 ساعة يومياً على المولدات الخاصة التي تعمل بواسطة المازوت. وزّع الأموال التي دعمت استيراد سلّة واسعة من المواد الاستهلاكية. لائحة هذه السلع حدّدت بناء على طلبات الوزراء بالتعاون والتنسيق مع مرجعيات سياسية ووزراء.
قناة التوزيع المشتبه فيها بالفساد المحلي والدولي، ركّبت أيضاً أدوات مثل منصّة «صيرفة» التي منحت الدولارات للكل بحسب الطبقة التي ينتمون إليها. فعندما طبّق التعميم 161 من دون سقوف، كان الأكثر قدرة على الاستفادة منه، هم الأكثر ثراء في المجتمع. سياسيون، أصحاب مصارف، مديرو مصارف، تجار مواد استهلاكية، تجار عقارات، أصحاب وكالات حصرية... الكثير من هؤلاء حققوا أرباحاً طائلة من عمليات مفتوحة السقف على «صيرفة». صرفوا الدولارات بسعر السوق، واشتروا بالليرات دولارات مجدداً. كرروا العمليات بشكل شبه يومي إلى أن امتلأت بطونهم بالمال الذي ضخّه. ألا نسمّي ذلك فساداً؟
عندما طبّق التعميم 161 بلا سقوف استفاد منه الأكثر ثراءً وحققوا أرباحاً طائلة من تعدّدية أسعار الصرف


لم يعد أحد يهتم لهذه العمليات، طالما أنها اليوم تدرّ أرباحاً على الجميع. كلّ بحسب طبقته. موظفو القطاع العام يحوّلون رواتبهم على «صيرفة» ما يؤمّن لهم دخلاً إضافياً مجانياً يوازي 70 دولاراً. موظفو القطاع الخاص أيضاً. الباقون، أي رجال السلطة والمصارف والتجار، لم يشبعوا، إنما انتقلوا إلى لعبة أخرى تتعلق بتجنّب تحويلهم إلى ضحية السلطة. بعض المصارف ترى أنه يمكنها أن «تنفد بريشها»، وبعض التجّار يعترضون على تسديد الضريبة على سعر صرف جديد يبلغ 15 ألف ليرة، رغم أنهم يربحون بالدولار، وأن لا أحد يرغب في منعهم من تحميل هذا الأمر للمستهلك... هناك لعبة جديدة اليوم اسمها: مكافحة الفساد. تسليط الضوء على بضعة لصوص صغار ارتكبوا فعل «الرشوة» في «النافعة» وفي «الدوائر العقارية» أمر مبهم بمقدار ما يبعد الضوء عن الفساد المنظّم المتجذّر في بنية السلطة. لم يعد سلامة، أو أي من أبناء هذا النظام قلقاً. بالعكس، بات النظام يناقش في مسألة انعقاد مجلس الوزراء، في ظل غياب رئيس الجمهورية، لأنه أمر محقّ أو لأنه يمسّ بحقوق «الآخر». عادت اللعبة إلى قواعدها: «الفساد مؤسسة كاملة فرضت نفسها على الجميع، وارتضوا بها» كما وصفها ذات مرّة شربل نحاس. هذه المؤسسة تضمّ سياسيين ورجال أعمال وموظفين وقضاة ومثقفين ورجال دين ونقابات... أما مستوى التناغم بينهم فهو الذي يميّز بين حالة اللصوصية الفردية وحالة الفساد. انظروا إلى «سوليدير». الكل يرتضي بوجودها، رغم أنها استولت على أراضٍ خاصة وعامة بتشريع في مجلس النواب. ما حصل سابقاً من سرقة للودائع، وللأراضي وللأجور، سيتكرّر طالما أن الجميع ارتضى أن يكون الفساد عبارة عن رشوة لموظفي النافعة أو الدوائر العقارية. أصلاً، هؤلاء الموظفون لطالما اشتهروا بتلقيهم الرشوة منذ عقود، ولم يمسّهم أحد. وفي ظل هذا الانهيار، أصبحت الرشوة ظاهرة «معتادة» يتردّد صداها في كل دوائر وزارات: المال، التربية، الاقتصاد، الصحة، مؤسّسة الإسكان، الضمان الاجتماعي، وسائر الإدارات والمؤسسات.