أصرّ مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان على إجراء انتخابات مفتي المناطق في 18 كانون الأوّل الجاري، وأدار ظهره لكلّ الأصوات الرافضة لهذا الاستحقاق؛ هو وَعد بإجرائها وسيفي بوعده في الربع الأخير من عهده لتعبئة الشغور في كل المراكز باستثناء إفتاء جبل لبنان التي تمتلك مفتياً أصيلاً.لا يفهم المعنيون الأسباب التي دفعت دريان إلى توريط نفسه في حمل كرة النّار، وخصوصاً أنّه لم يكن مضطراً إليها. آخر انتخابات للمفتين أُجريت قبل أكثر من 45 عاماً.
الرواية الأولى تُشير إلى أنّ عائشة بكّار لا تقوى على رفع شعار التحدّي في وجه السفارة السعوديّة. ولذلك، رضخت لطلب المملكة السيْر في الاستحقاق رغبةً منها في تطيير المفتين المُعيّنين بالوكالة والمحسوبين على تيار المستقبل. بالنسبة إليها، إنّه الوقت المُناسب لحرق رجالات سعد الحريري والقضاء على نفوذه في المؤسسة الدينيّة، إضافة إلى تفضيلها الذهاب نحو مفتين يرفعون الشعارات المذهبيّة وينفّذون أجندتها بأمانة متى أرادت ذلك.

(هيثم الموسوي)

في المقابل، يملك البعض الآخر رواية مغايرة، ويرون أنّ خطوة دريان غير المحسوبة قد تفتح عليه جميع الجبهات بما قد يؤدي في النهاية إلى إحراق كل مراكبه. ويؤكد هؤلاء أن المفتي لم يُنسّق خطوته مع السعوديّة أو مع الرئيس فؤاد السنيورة، بل على العكس من ذلك وقع الطلاق مع الأخير بعدما أصرّ رئيس الحكومة السابق على إجراء تعديلات على المرسوم 18/1955 المُتعلّق بتنظيم دار الفتوى قبل أي انتخابات. إذ يعتقد بأن القانون صار بالياً ويحتاج إلى نفضة بعد أكثر من 65 عاماً على وضعه حيّز التنفيذ، وهو تقدّم باقتراحاته عام 2012 إلى لجنة شُكّلت لدرسها. فيما العالمون ببواطن الأمور يعرفون أنّ الهدف الحقيقي من التعديلات هو تقليص صلاحيات المفتي الذي يسيطر الفتور على علاقته مع السنيورة.
إذاً، هو التاريخ يُعيد نفسه. وهي المعركة التي خاضها المفتي السابق الشيخ محمد رشيد قباني لأكثر من 3 سنوات في وجه محاولات السنيورة «لتقزيم دار الفتوى ودورها الديني والوقفي والوطني لأن تعديلاته لم تُبقِ لمُفتي الجمهورية اللبنانية منَ الصلاحيَّات سِوى استقبال الزَّائرين»، على حد تعبير قباني.
الفارق الوحيد بين قباني ودريان، أن الأوّل أعلنها معركةً واضحةً أفضت إلى وقوفه وحيداً - باستثناء قلّة - بعدما فتح عليه تيار المستقبل النار، أما الثاني فقد أسمع التيار كلاماً معسولاً يرضيه حتى يرضى به مفتياً للجمهوريّة. وهذه الوعود هي التي سهّلت أصلاً على صلاح سلام (ممثل المستقبل) حمل اسم دريان إلى السفارة المصريّة حيث كانت تجرى المُفاوضات في حينه، وعبّدت طريقه إلى عائشة بكار.
طبعاً، لا تبني السعوديّة علاقتها مع دار الفتوى بناءً على رغبات السنيورة، ولو أنها قد تتأثر بها في بعض الأحيان. لكن للمملكة ملاحظاتها على دريان المطبوعة صورته في ذاكرتها على أنه الشيخ «المغمور» الذي كان يؤمّ المصلّين في قريطم في شهر رمضان أيام الرئيس رفيق الحريري، واستمرت علاقته مع الحريري الابن حتّى صار رئيساً للمحاكم الشرعيّة ثم مفتياً للجمهوريّة.
يُصرّ السنيورة على إجراء تعديلات على المرسوم 18 قبل إجراء انتخابات المفتين


صحيح أن التواصل بين دريان والرئيس سعد الحريري مقطوع منذ أشهر، بعد اتصال عتبٍ وغضبٍ من الأخير بسبب مواقف دار الفتوى الداعمة للسنيورة في الانتخابات النيابيّة، إلا أن السعوديّة لا تزال تعتبر دريان ابن الحريريّة ولا يُمكن أن يرتقي لأن يكون برتبة رجلها في لبنان. وهو حاول رمي كل أوراق اعتماده في حضن المملكة، لكنّها كانت دائماً تردّه خائباً. هكذا، تتدفق الأموال السعوديّة إلى خزائن الجمعيّات الإسلاميّة، فيما الحنفيّة مقفلة على دار الفتوى التي تبدو غير قادرة على تلبية مطالب المشايخ والقضاة الذين يُعلنون الإضراب ويتداعون إلى اعتصامات أسبوعيّة.
الإشارات السلبية التي يلمسها دريان من المملكة لا تُعدّ ولا تحصى بعدما أدارت الأذن الطرشاء لتلبية مطالب الدار المالية. كما أنه أيقن أنّها من حرّض الإمارات العربية المتّحدة على توقيف منحتها الماليّة للمشايخ، ثم المنحة القطريّة.
لذلك، لم يعد أمام دريان من خيار سوى ما يفعله اليوم للتقرّب من السعوديّة، عبر تحريك ملف مفتي المناطق لفتح مسلك تواصل مع الرياض والإتيان بمرشّحين تفضّلهم. مع ذلك، يقول مُطلعون إنّ كل هذه «الحركشات» لن تأتي بالنتيجة التي يتمنّاها دريان لجرّ المملكة إلى دعمه، إذ إنّها تتصرّف معه على أساس أنها سلّفته كثيراً في السابق.