مشاركة الجامعات في سباق التصنيفات الذي تجريه شركات تجارية عالمية مثل QS أو THE وغيرهما ليست خياراً. عملياً، إذا أحجمت الجامعة عن تحديث معطياتها وأرقامها، فإن منصّات التصنيف ستصنّفها تلقائياً، من دون علمها، ومن دون إرادتها، وسترى نفسها سنة بعد سنة في مرتبة متأخّرة في تصنيف معيّن، ما قد يلحق إجحافاً بسمعتها الأكاديمية والمهنية. وبهذا المعنى، يقرّ مسؤولون أكاديميون في الجامعات اللبنانية بأنّ الـranking بات أمراً واقعاً، وأيّ محاولة لإنكار وجوده هي كدفن الرأس في الرمل، وبالتالي يجب التعامل معه كإحدى الأدوات التي تساعد الجامعة في تطوير أدائها وبناء خططها، رغم البعد التجاري للتصنيف، والأساليب الملتوية التي تعتمدها بعض الجامعات كدفع الأموال، أو شراء أفضل الباحثين بهدف تبوّؤ مراتب متقدّمة عالمياً.«الأخبار» تواصلت مع عدد من الجامعات اللبنانية لمعرفة أسباب مشاركتها في هذا التصنيف، وما يمكن أن يضيفه إليها، ورأيها بالمعايير المعتمدة من شركات التصنيف، وما إن كانت علمية ومنصفة. ومن بين الجامعات التي جرى التواصل معها، تمنّعت الجامعة الأميركية في بيروت- كعادتها- عن الإجابة على الأسئلة التي أرسلناها لإدارتها عبر المكتب الإعلامي.

الأنطونية: شركات التصنيف تجارية
الأمين العام للجامعة الأنطونية، الأب زياد معتوق، يقول إننا «لا نختار المشاركة في التصنيفات بل نذهب إليها مرغمين، ولسنا راضين على مسار التصنيف، وإن كان يضع أداة بين أيدي الطلّاب ليختاروا بشكلٍ أفضل مسارهم الجامعيّ، ولكنّ الطريقة التي تُدار فيها هذه التصنيفات لا تضع مصلحتهم في الأولويّة بل الربح الماديّ. في النهاية هذه شركات تجاريّة تبتغي الربح». ويتجلى الجانب التجاري «في العروض التي نتلقّاها كجامعة لوضع إعلانات في المنشورات الخاصّة بالتصنيفات، وتمويل لقاءات عالميّة حول التعليم العالي، والمشاركة في ورش عمل تساعد الجامعة في تحسين تصنيفها، وشراء منتجات تمكّن الجامعة من تنظيم مجال أو آخر من عملها يؤثّر على معيار من معايير التصنيف». برأي معتوق، تفتقد المعايير إلى الشفافيّة، «فلا يوجد آليّة واضحة وفعّالة لمتابعة ومراقبة جميع المعطيات التي تبرزها الجامعات في العديد من المعايير. كما أنّ المعايير لا تأخذ في الحسبان تميُّز جامعات في اختصاصات معيّنة عن جامعات أخرى». اللافت ما يثيره معتوق لجهة تنميط الجامعات، بحيث تفقد شيئاً من فرادتها التي نشأت على أساسها.

اللبنانية- الأميركية: أداة للمقارنة
ديان نوفل، مساعدة رئيس الجامعة اللبنانية الأميركية للبحث المؤسساتي والتقييم، لديها مقاربة مختلفة للتصنيف، فهي تعدّه أداة مهمة لأي جامعة للتواصل مع الجامعات الأخرى، وإقامة المقارنة معها في مكوّنات مختلفة، ومنها التدريس الجيّد، المناهج المبتكرة، البحث الاستكشافي، جذب المنح، خدمة المجتمع وغيرها، ما يساعد الجامعة على تقييم أدائها استناداً إلى المعايير والمواصفات التي تضعها المؤسسات العالمية للتقييم، و«نحن معنيون بتطوير قدراتنا وإمكاناتنا استناداً إلى التصنيف الذي يطاول جامعتنا». برأيها، التصنيف مجرد مسار واحد في جملة مسارات. مثلاً، لا يمكن له أن يؤدي إلى تقييم جودة التعليم كثيراً، ويحتاج الأمر إلى سؤال الطلاب، وهذا ما لا تقوم به مؤسسات التصنيف العالمية مثلاً.
تستبعد نوفل الجانب التجاري، والأصحّ، كما تقول، «مقاربة الموضوع من زاوية الموارد الضخمة التي تضعها الدول والمجتمعات في تصرّف جامعاتها، سواء لجهة اختيار أفضل الأساتذة، أو تأمين كلّ الإمكانات اللازمة للتعليم العالي، وهذا ما تقوم به السعودية مثلاً والجامعات التي تحتلّ المراكز الأولى عالمياً، في حين أنه في لبنان، لا أحد يهتم بمساعدة الجامعات بدءاً من الجامعة اللبنانية، والدولة اللبنانية ليست لديها رؤية أو سياسة تربوية جامعية للتفاعل مع مؤسسات التعليم العالي وتحفيزها على تحسين أدائها».
تعتمد بعض الجامعات أساليب ملتوية كدفع الأموال أو شراء أفضل الباحثين


اليسوعية: ليس معياراً للجودة
مسؤولة مركز ريادة الأعمال في جامعة القديس يوسف، أورسولا الحاج، توافق أن كلّ هذه التصنيفات هي أدوات للمقارنة والقياس المعياري، مشيرة إلى أننا «نعطي كلّ واحدة منها منظوراً مختلفاً ونعتقد أننا بحاجة إلى المزيد من البيانات المقارنة والتصنيفات لفهم الجوانب المختلفة للتعليم وللطلاب، واتخاذ خيار بناءً على المعايير الأكثر أهمية بالنسبة إليهم».
لا تنفي الحاج أن هناك «بزنس التصنيف»، إذ يمكننا العثور على كلّ أنواع الترتيب، وما لا نحبّه هو اعتبار أحد هذه الترتيبات المعيار الوحيد لقيمة الجامعة، «وهذا أمر خاطئ ويجب أن تكون وكالات التصنيف والجامعات يقظة بشأن شفافية هذه التصنيفات وجودتها، حتى لا تنتقل من أداة للتحسين المستمر إلى أداة للتواصل والتلاعب الوهميين».
وتستبعد الحاج أن يستخدم أولياء الأمور والطلاب التصنيفات كمعيار لاختيار الجامعة، «لكنّ الجميع يتشوّق لمعرفة النتيجة التي يستخدمونها للتفاخر باختيارهم، باعتبار أن التصنيف قوي في العلامة التجارية، ويسهل إيصاله وفهمه». وعما إن كانت المعايير موضوعية ومنصفة، أجابت الحاج بـ«نعم ولا، نعم من أجل الغرض الذي أنشئت من أجله، ولا لأن التصنيف لا يمكن أن يحتوي على 7 أو 8 نقاط بيانات للحكم على جودة الجامعة، وهذا هو الغرض من الاعتماد». وتلفت إلى أن إعطاء أهمية كبيرة للترتيب قد يكون أمراً خطيراً، وأولئك الذين يدفعونه بعيداً سوف يبيعون التعليم.

اللبنانية: لفت نظر الدولة
الجامعة اللبنانية قدّمت بياناتها لمؤسسة «كيو إس» (QS) للمرة الأولى في عام 2018 عن نتائج عام 2019، بعدما تبيّن لها أن هذه المؤسسة تقوم بتصنيفها من دون مشاركتها، ومن دون أن تقدّم هي بياناتها بنفسها، ما كان ينعكس، بحسب هدى مقنص، مسؤولة مكتب التواصل والمعلومات في الجامعة، سلباً على صورة الجامعة وعلى النظرة التي ينظر بها بعضهم إليها بوصفها «عبئاً» على الدولة اللبنانية ومؤسسة غير منتجة. ووفق مقنص، اعتبرت الجامعة أن «الاشتراك في التصنيفات هو أحد الطرق التي تثبت بواسطتها أنها تستحق عن جدارة أن تحظى برعاية الدولة واهتمامها وبزيادة موازنتها».
وتقول إن «مؤشر السمعة المهنية يؤكد أنّ طلّاب الجامعة اللّبنانيّة ومتخرّجيها يتمتّعون بالكفاءات والمهارات اللّازمة التي يحتاج إليها سوق العمل، فضلاً عن التزامهم بالتّفكير الإبداعي ومبدأ الخدمة المجتمعيّة والمسؤوليّة الوطنيّة والرّيادة».
اللافت ما تقوله مقنص لجهة الإجحاف الذي يطاول الأعمال البحثية الصادرة باللغة العربية، «لأنها ليست مُحصاة على مواقع البحث المتخصّصة، فيقتصر تصنيف الجامعة في هذا المجال على الكليات التطبيقية التي يصدر أساتذتها أعمالهم البحثية باللغة الإنكليزية أو الفرنسية، في حين أن كليات الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية تنتج أعمالها أساساً باللغة العربية».



سيزار وازن: التصنيف ليس التميّز
يقرّ مدير مكتب الشؤون الدولية في جامعة قطر، سيزار وازن، بأن شركات التصنيف هي «شركات تجارية وتبيع الداتا بمبالغ طائلة»، وبأن لعبة التصنيف هي «لعبة تسويقية». رغم ذلك، يبرّر وازن انخراط جامعة قطر، وهي الجامعة الرسمية، في هذه التصنيفات لأنه «من غير المنصف للقيادات القطرية، التي وضعت استثمارات عالية لتحسين التعليم وتعزيز البحث العلمي، أن لا تشارك في التصنيف ويستفيد المجتمع القطري من الإنجازات التي تحققها الجامعة على هذا الصعيد». يوضح: «المشاركة ليست هدفاً بحدّ ذاته، والتصنيف لا يعني التميّز، أي أن تصدّق الجامعة نفسها النتيجة باعتبار أنها أدّت قسطها للعلا، والطريقة التي نعتمدها في الجامعة هي أن نكون في المستوى الذي يجب أن نكون فيه، أي إظهار مستوى الجامعة الحقيقي من دون اعتماد أي أساليب غير أخلاقية لاحتلال مراكز متقدمة». ما يستفزّ وازن: «أن لا تحظى الجامعات اللبنانية المتميّزة بالمرتبة التي تستحقها، والسبب بسيط، وهو أنها لا تضع الجهود اللازمة في هذا الإطار، لا سيما وأن اجتذاب الطلاب الأجانب هو معيار أساسي في التصنيف، ويفترض أن تكون هناك مبادرة على مستوى الدولة لاستقطاب هؤلاء الطلاب لا سيما الصينيين والهنود، ما يمكن أن يسهم في إدخال مردود مالي إلى الجامعات» مقترحاً «عقد مؤتمر وطني لمناقشة منهجية هذه التصنيفات وتعزيز أدوات المنافسة».


نهوند القادري: التصنيف يخدم النظام القوي بـ«نعومته»
لا يمكن، بحسب الأستاذة والباحثة في علوم الإعلام والاتصال نهوند القادري، عزل التصنيفات الجامعية، أو أيّ تصنيف آخر، عن سياق النظام الرأسمالي النيوليبرالي المعولم السائد، والمنطق الذي يعمل من خلاله والآليات التي يفرزها، بحيث يصحّح الخلل من داخله. وبهذا المعنى، يلتفّ هذا النظام، كما تقول، على المنظومة التكنولوجية الاتصالية ويوظفها لمصلحته، من خلال البحث عن إنسان جديد يمتلك ثلاث سمات: مستهلك، منافس ومتصل. «وبذلك يجري وضع معايير تعزّز المنافسة على الاعتراف، وهو ما يفسّر سباق الجامعات للتنافس على موقعها في السوق الاقتصادية، لا سيما في الإنتاج الاستهلاكي، ما قد ينتج عنه مفاعيل نفسية واجتماعية وأخلاقية، وأحياناً قلقاً وإحباطاً وعدم رضا عن الذات، ومزيداً من عقد النقص، ما يجعل الهيمنة تتغوّل وتتغلغل في العقول أكثر فأكثر».
ما يحصل، بحسب القادري، هو أن عمل الجامعات يصوّب أكثر فأكثر باتجاه ما تريد جهات التصنيف، ووفق المعايير التي تضعها هي، والتي تناسب ثقافتها ومصالحها وهيمنتها المبطّنة والخادعة على الآخرين، وبناء عليه، فإن ما يجري لا يمكن وصفه بـ«الزعبرة»، بقدر ما يخدم معايير هذا النظام القوي بـ«نعومته». تسأل القادري: «أين العدالة في التصنيف حين تقارن جامعة مثل الجامعة اللبنانية، تستقطب طلاباً من بيئات معدمة، وتفسح أمامهم فرص الترقي والحراك الاجتماعي، وبين جامعات أخرى تستلم طلاباً جاهزين من طبقات ميسورة ولديهم كلّ المقوّمات سلفاً؟». تستدرك: «ثمة سلب لروحية الجامعات التي يُفترض أن تقوم على الإنتاج المعرفي والمفاهيمي الذي يرعى آليات العمل والتطوّر، بما يتلاءم مع السياقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية». هذا السلب، كما تقول القادري، «يتمثل في مقولة إن الجامعات يجب أن تستجيب لمتطلبات سوق العمل، وأحياناً للّهاث وراء تقلباته، وعندها يصبح المعيار الأقوى والأفضل هو السائد مقابل الأضعف والأسوأ». يكمن وراء هذا التصنيف، بحسب القادري، «نوع من التوتاليتارية القائمة على الاستقطاب الثنائي والفرز الطبقي والعرقي والمناطقي، بصورة إطلاقية، ما يؤدي إلى مزيد من استبعاد المتن للهامش الذي غالباً ما يكون مكمناً للإبداع».