في عام 2020، نشر «الباحث» الفرنسي كاميي نوس (Camille Noûs) نحو مئتي مقال علمي محكّم في مجلات علمية عالمية، في حقول امتدّت من فيزياء الجزيئيات، وصولاً إلى الجندر، مروراً بالبيئة والمعلوماتية والعلوم الاجتماعية والتاريخ... اتضح في ما بعد أن هذا «الباحث» الموسوعي وهميٌّ إن صحّ التوصيف، وذلك بعدما اعترفت مجموعة متنوّعة من الباحثين، بأنها هي من تنشر باسمه وأنه لا وجود حتّى للمختبر الذي كان يُنسب إليه (بالمناسبة تمّ اختيار اسم كاميي لأنه يصح للمرأة والرجل، وكنية نوس من الضمير المنفصل Nous أي «نحن» ومن اليونانية القديمة νοῦς التي تعني العقل). طبعاً لم تكن هذه الخدعة تبتغي المزاح، بل كانت وسيلة احتجاجية ضد التمجيد الفردي، ولإبراز المجهود الجماعي الذي يكمن خلف النتائج العلمية، كما لإثبات عبثية التقييم الكمّي للبحوث وما يستتبع ذلك من تحريف لأهداف البحث العلمي وزجٍّ للباحثين في التسويق الذاتي والتنافس على الأرقام والسعي للإنتاجية الكميّة ولو على حساب الجودة. وما ينطبق على الباحثين من تشويه لدورهم، ينطبق أيضاً على الجامعات في سعيها المحموم نحو مجد التصنيفات. في كتابه «سوق المعارف»، يربط عالم الاجتماع لورنس بوش بين صعود النيوليبرالية وتحويل التعليم العالي والبحوث إلى سوقٍ يعمل وفق حوكمة تجارية، لا تختلف عن حوكمة الشركات، مع كلّ ما يستلزم ذلك من سطوة واضحة لمفاهيم الربحية والاستحواذ على التمويل، وجذبِ النخب المالية والطاقات الشابّة المحليّة والأجنبية. وهكذا، وتحت حجج مختلفة منها مثلاً توجيه الطلاب أثناء اختيار «الجامعة الأفضل» لدراستهم، أو إرشاد المموّلين نحو «أنجح الجامعات» بحثياً لتنفيذ مشاريع علميّة تهمّهم، بدأت رحلة تصنيف الجامعات وفق رؤية رأسمالية بحت تشجّع على تسليع التعليم والبحوث ومقاربتهما كسلعة تخضع لآليات العرض والطلب ولمجاراة «الماركتنغ»، من دون الالتفات جدياً إلى مآلات هذا التحوّل والضرر الذي لحق بالدور الاجتماعي الذي على الجامعة أن تؤديه في محيطها وبيئتها، باستثناء طبعاً بعض الأصوات التي بدأت تعلو ضد هذا التحريف، ومنها المؤرّخ جيري مولر الذي عرض، في كتابه «استبداد المقاييس»، مساوئ الاعتماد الأعمى على المقاييس الكميّة ومدى ضررها على كلّ مؤسسات المجتمع ومنها الجامعات.
لو سلّمنا بحقيقة الميل البشري لإغواء التصنيفات، لأنها تبدو أسهل وسيلة للتقييم، تقينا عناء التحليل النوعي المعقّد، علينا أن لا ننسى أن كلمات مثل «أفضل»، و«أنجح» (كما كلّ الرتب) تحمل في طياتها سؤالاً جوهرياً عن ماهية ودلالة المعايير التي أوصلت إليها. لنأخذ مثلاً تصنيف التايمز (Times Higher Education Rankings)، فإن غالبية مؤشراته والتي تندرج تحت خانات كالتعليم، البحوث، التمويل، العالميّة، الابتكار، إلخ.، تعتمد على معطيات كميّة وإحصائية وماليّة. لن أفنّد كلّ الخانات، فكل واحدة تحتاج إلى مقال منفصل، وسأكتفي بالبحوث التي يعتمد التصنيف مؤشرين أساسيين لها وهما متوسط عدد المقالات العلمية لكلّ باحث، ومتوسط الاستشهادات لكلّ مقال علمي، باعتبار أنهما يعكسان جودة البحوث وأثرها، وفي هذا تحريف وتضليل وترويج للتسليع. فبالنسبة إلى مؤشر المقالات، فإنه يشجّع ببساطة على «تفريخها»، حتى لو اضطرّ الباحث لتجزئة نتائجه بأسلوب صناعي، أو للعمل في حقول خارج اختصاصه فقط لزيادة إنتاجه، أو أيضاً لتكديس عشرات طلاب الدكتوراه الذين سيعودون عليه بعشرات المقالات من دون مجهود يُذكر منه، إلى ما هنالك من عواقب كارثية كضمور مساحة البحوث اللا نمطية والباحثين المتمرّدين على هذا المنحى. أما في ما يخصّ الاستشهادات، فهل ذكر مقال علمي في مقال آخر يعني مصادقةً على ما ورد فيه؟ علينا أن نتذكّر أن مئات الاستشهادات بالباحث الكوري هوانغ وو-سوك كانت لنقض ادعاءاته بشأن الاستنساخ البشري، ولم تكن بأي شكل من الأشكال لشرعنة بحوثه! ما يعني ببساطة أن الاستشهادات لا تعكس بالضرورة جودة البحث أو أهميته (بل ربما العكس) والأنكى أنها تدفع بالباحثين حول العالم نحو العمل على البحوث «المعولمة»، التي تستحوذ على اهتمام عالمي فرضته الجهات العلمية المهيمنة التي تحدّد الأولويات العلمية انطلاقاً من منظارها ومصالحها، وهو ما أدى تلقائياً في الكثير من الدول، ومنها بلادنا، إلى إهمال التحدّيات المحليّة وانفصام البحوث عن محيطها (وهذا ما ساهم أيضاً في تهميش الإنسانيات وعلوم المجتمع).
أما كيفية احتساب المقالات والاستشهادات، فتتمّ عبر رصد المجلات المتوفرة في قاعدة بيانات محدّدة، تتشارك في المصالح مع ثلّة من دور النشر العلمية التي تحتكر سوق النشر (حتى ولو أوحت بالعكس). فيكفي أن نطّلع على حجم أعمال دار نشر السيفير (Elsevier)، والذي تجاوز سبعة مليارات دولار أميركي (دون أن ننسى إسهام دور النشر في فرض هيمنة لغوية لصالح الإنكليزية)! أما باقي التصنيفات المعروفة فلا تقل سوءا. باختصار، فبالنظر مثلا إلى المؤشرات التي يعتمدها تصنيف شانغهاي، كنسبة الحائزين على نوبل وعدد الباحثين الذين نشروا مقالات في Science  و Nature ، يبدو بشكل فاضح وكأنها فُصّلت على مقاس البعض ترسيخاً للإيديولوجية النخبوية للجامعات. أما تصنيف كيو أس QS فيبدو الأكثر تسخيفا لدور الجامعة ومكانتها لأسباب عدة أهمها منهجية التصنيف وطبيعة المؤشرات الضيّقة.
ببساطة كل هذه التصنيفات لا تعكس فعليا جودة التعليم أو فعالية نقل المعرفة للطلاب، والأدهى في أنها أصبحت فخاً يدفع بالجميع للإصطفاف في مسلك موحّد يُفرض فيه تقييسٌ عام (standardisation) يلغي التمايز الثقافي بين الجماعات العلمية وينسف إمكانية بزوغ أفكار وعلوم لا تتماشى مع الأنماط السائدة، كما ويحوّل الباحث إلى مجرّد منتِجٍ لمقالات علمية يسعى من خلالها لمجد فردي و"لإقرار" بمكانته عبر مؤشرات كميّة (كمؤشّر هيرش H index  مالئ الدنيا وشاغل الباحثين) بات يعتبرها بذاتها بطاقة التعريف به دون أي اعتبار لمهامه التدريسية أو لدوره الأشمل في المجتمع. أمّا الأخطر فهو أن بعض الدول باتت تعتمد على هذه التصنيفات لتحديد سياستها العلمية وفرض اندماج بين بعض الجامعات كما ولتحديد التمويل، وبدورها الجامعات باتت تأخذ التصنيف كهدفٍ بذاته لا كوسيلة، وتعتبره مرجعاً لرسم خططها والشروع بتغييرات جذرية في الجامعة فقط من أجل اللحاق في السباق لا من أجل تحسين جوهر أدائها وتجذير دورها في المجتمع وفق رسالة وطنية جليّة... طبعا هذا لا يعني بأننا ننفي الأوجه الإيجابية لهذه التصنيفات باعتبارها أداةً تصلح لتشخيص بعض نقاط الضعف والقوة، ولكن مع الحذر من الخضوع للكوانتوفرينيا الطاغية (الهوس الكمّي) وشرط أن تختار الجامعة بتأنٍ شديد ما يتناسب مع واقعها وأهدافها ومهمّتها الأصيلة كما والإعتراف بمحدودية هذه التصنيفات التي لا تتبع منهجاً تقييميا بل منهجاً مقارَناً بين الجامعات، يختلف مع اختلاف هويّة "المصنِّف" وغاياته التجارية والسياسية والتأثيرية...
*الأمينة العامة للمجلس الوطني للبحوث العلمية