بعد ثلاثة أشهرٍ على اعتكافهم الشامل، يبحث القضاة عن حجّة للنزول عن الشجرة. فلا هم قادرون على الاستمرار في الإضراب ولا يملكون ترف التراجع فارغي اليدين حفاظاً على ماء الوجه. عبثية الوضع دفعت قسماً كبيراً منهم إلى التفكير جدياً في جدوى الاستمرار في الاعتكاف الذي، على ما يبدو، سينتهي تدريجاً بخروقاتٍ من هنا وهناك.وفيما يرجح أن يرحّل القضاة البت في مصير اعتكافهم إلى العام المقبل، تشير الأجواء إلى «حالة من الضياع». ففي وقت أدارت السلطة ظهرها لهم تماماً، لا يبدو الموقف موحّداً بين القضاة الـ450 المعتكفين، مع تسليم نسبة لا بأس بها منهم بعدم جدوى الإضراب كوسيلة لتحقيق المطالب. وتتنازع القضاة ثلاث مجموعات. الأكثر تشدداً تربط العودة إلى العمل بالموافقة على صرف الرواتب وفق منصة «صيرفة»، والثقل الأساس في هذه المجموعة للقضاة الجدد. لكن نقطة ضعف هؤلاء، بحسب مراجع قضائية، أن «لا تأثير لهم على سير العمل في العدليات. إذ إن جزءاً منهم لا يزالون في وزارة العدل ولم يجر تعيينهم بعد، ومن عيّنوا منهم لم يتسلموا مراكز أساسية». وبسقفِ مطالبٍ أدنى، هناك مجموعة أخرى تقبل بصيغة الـ8 آلاف ليرة، لصرف المعاشات. أما المجموعة الأخيرة الأكثر واقعيةً أو يأساً - لا فرق - فلا تنتظر شيئاً. وهؤلاء في حالة توقف قسري عن العمل، ويحاولون تسيير الملفات التي تحمل طابع العجلة، كملفات الموقوفين وسواها، لكن تحول أحوال العدليات المظلمة دون تحقيق ذلك في أغلب الأحيان.
عملياً، الجميع مكبّل. ويقضي الاختلاف على إمكانية فتح كوّة في جدار الأزمة. ليبقى الجو العام ميّالاً للتراجع حين تسنح الفرصة. القضاة ينتظرون «passe» من السلطة، على شكل مكاسب ولو محدودة. بخاصة أنهم سيخسرون فرصة الاعتكاف لاحقاً كإحدى أدوات الضغط. وتنقل أوساط قضائية أن هذا الإرباك عزّزته تطورات متناقضة صعّبت الموقف. فمن جهة أثارت موازنة 2022 حفيظة القضاة، على خلفية رصد 0.49% فقط من قيمة الموازنة لمصلحة وزارة العدل ومرافق السلك القضائي. وفي حين خصّصت لصندوق تعاضد النواب 75 مليار ليرة، و250 ملياراً لمجلس الوزراء، لم تتعد حصّة صندوق تعاضد القضاة الـ10 مليارات. بالتوازي سعى وزير العدل الراغب بإنهاء الاعتكاف، مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، لتأمين سلفة خزينة لمصلحة صندوق التعاضد. ووفق المعلومات ستبلغ قيمتها 20 مليار ليرة، والأمور «سالكة» في ديوان المحاسبة. وهي سلفة ثانية، ستلحق بالسلفة الأولى التي تسلمها الصندوق قبل أشهر، بقيمة 35 ملياراً. وبنتيجتها تقاضى القضاة حتى الآن ثلاث دفعات بالدولار تراوحت قيمة كل منها بين 500 دولار و1000 دولار، وفقاً لدرجة كل منهم. لكن المشكلة أن هذه مساعدات اجتماعيّة غير مستدامة، من غير الواضح المدى الزمني للاستمرار بصرفها. وهي في جميع الأحوال من خارج الراتب، ولا تدخل في احتساب تعويضات نهاية الخدمة.
عدد القضاة المستقيلين يرتفع والمتريّثون يطلبون إجازات بلا راتب


في المقابل، سيستفيد القضاة بدءاً من الشهر الجاري من زيادة الرواتب (ضعفا الراتب على أن لا تتعدى الـ12 مليون ليرة). وتقدّر مراجع قضائية أن «تفتح زيادة الرواتب هذه نافذةً يخرق منها القضاة اعتكافهم بالحد الأدنى».
منذ البداية لم تحاول السلطة السياسية إخراج أرانب حلولها. فمن يتبعها من القضاء لا بد أنه يتدبّر أموره، وينفّذ أدواراً مطلوبة. فيما الباقون تارة يناشدون حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بتوقيع عريضة لاحتساب رواتبهم على 8 آلاف من دون جدوى، وتارة يطربهم رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود بآرائه حول المساعدة الاجتماعية التي يعتبرها كافية للإجهاز على اعتكافهم.
من جهة أخرى، تتوالى الاستقالات في صفوف القضاة، وكذلك طلبات الإجازات غير المدفوعة. قبل أسبوع، راسل القاضي فادي عنيسي كلاً من وزير العدل هنري خوري ومجلس القضاء الأعلى يبلغهما رغبته بالاستقالة. في الفترة عينها قدّم القاضي ربيع معلوف، وهو مستشار جنايات في بيروت، استقالته ثم عاد عنها وطلب إجازة طويلة من دون راتب. وقبل ستة أشهر استقال قاضي التحقيق في جبل لبنان زياد مكنا، وهو يعمل حالياً في مجال الدراسات القانونية بين لندن ولبنان. وتبعه المحامي العام المالي القاضي جان طنوس. أما القاضية كارلا قسيس، فقد مضى عام على استقالتها. وكانت القاضية عفاف يونس أوّل من ترك السلك القضائي مع بداية الأزمة. بينما طلب أكثر من 10 قضاةٍ إجازاتٍ طويلة من دون راتب. وجلّ هؤلاء يتعاقدون مع مؤسسات أو منظماتٍ في الخارج لفترة أشهر لإنجاز أعمال قانونية معيّنة.