تعاني العائلات في لبنان من وضع معيشي صعب، في ظل التدهور المستمر للأوضاع المعيشية، والغياب التام للخدمات العامة من رعاية طبية وتعليم وكهرباء ووسائل النقل وغيرها. هذا الوضع دفع بعض العائلات إلى البحث عن دخل إضافي لتلبية احتياجاتها من خلال العمل في وظائف إضافية، أما البعض الآخر فاتخذ مسلكاً مختلفاً من خلال الانخراط في نشاطات إجرامية وتشكيل «عصابات عائلية».من بين هذه الحالات سيدة في الخمسين ألقت القوى الأمنية القبض عليها بعد عدة شكاوى بحقها، ليتبين من خلال التحقيقات بأنها أقدمت على سرقة أكثر من عشرين منزلاً في منطقة بيروت بالتعاون مع ابنها العشريني. بعدما كانت تدخل المنازل بهدف التنظيف، كانت فتسهّل بذلك دخول ابنها لسرقة ما تيسر له من أموال ومجوهرات. أما «محمد» الذي يقيم مع عائلته المؤلفة من 6 أشخاص في البقاع، فيدير مع والده وأبناء عمومته شبكة لسرقة السيارات وبيع قطعها. يقول محمد - الذي لم يحظ بفرصة التعليم - أنه لم يسع للبحث عن عمل «فالمكسب هنا وفير وبالدولار». «أمير» طفل الأحياء العشوائية ابن التسع سنوات، ينقل «كميات صغيرة» من المخدرات مع إخوته، وبالنسبة للعائلة هذا هو الدخل الأساسي للأسرة، بعدما حُكم على رب العائلة بالسجن بسبب اتجاره بالمخدرات.
هذه الأفعال الجرمية وغيرها تفتح النقاش حول التغييرات التي طرأت على الأسرة التي يفترض أنها المؤسسة الأولى المنتجة للقيم والمبادئ لأفرادها، والتي تتحول في بعض الأحيان إلى مؤسسة منتجة للجريمة بكافة أشكالها. فهل الوضع الاقتصادي المتردي هو العامل الوحيد الذي يشكل هذا السلوك الجنائي أم أن هناك عوامل أخرى؟
أعادت الأزمة الاقتصادية تشكيل حياة اللبنانيين وأنماط حياتهم، ولم تسلم كافة الطبقات من ارتدادات هذه الأزمة. إلا أن الطبقة الوسطى والفقيرة كانت أكثرها تأثراً بعدما فقدت الرواتب 90% من قيمتها ليجد بعض اللبنانيين أنفسهم أمام خطر الفقر المدقع، بعدما اعتادوا لفترات طويلة على نمط حياة معينة في ظل استقرار الليرة وانتعاش نسبي في الحركة الاقتصادية والقدرة على الاقتراض من المصارف.
تشير الباحثة في الأنثروبولوجيا، ليلى شمس الدين، إلى أن هناك صلة بين البطالة والانخراط بالأفعال الجرمية، إنما هناك تباينات في مستوى هذه الجرائم وتصنيفها. فهناك جرائم توضع تحت عنوان السرقات وتجارة المخدرات وأغلبها يكون لمكاسب سريعة. لذا يمكن القول، بحسب شمس الدين، إن ارتفاع معدل البطالة في لبنان إلى 40% على المستوى الوطني و35% على مستوى الشباب أسهم في ارتفاع معدلات السرقات والإتجار بالمخدرات.
من جهة أخرى، تؤكد شمس الدين أن الأزمة السياسية الاجتماعية تسهم في جنوح البعض نحو ارتكاب الجرائم، فغياب الضمانات والتأمينات للأشخاص وعدم توافر حماية من مسكن، وغذاء وتعليم يدفعهم نحو المزيد من الأفعال غير المشروعة.

عصابات أسرية؟
تمثل الأسرة الركيزة والبنية الأولى التي تعمل على غرس القيم والمبادئ لأفرادها. وهي بطبيعة الحال المسؤول الأول عن حماية أبنائها من الأخطار التي قد تواجههم. فهل من مبرر يعطي بعض الأهل تعريض حياة أولادهم للخطر أو السجن من خلال انخراطهم في أعمال غير مشروعة؟
لا شك في أن التنشئة الاجتماعية السليمة تلعب دوراً هاماً في بناء الشخصية السوية، وتؤمن نوعاً من الحماية الذاتية التي تجعل الأشخاص قادرين على التمييز بين الخير والشر. لكن إذا ما أخذنا في الاعتبار الظروف التي تحكم بعض المناطق في لبنان خصوصاً المناطق المهمشة التي تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة بعدما غابت عنها خطط التنمية وترك أبناؤها لمصير مجهول، فإن هذه العوامل مجتمعة تمثل أرضاً خصبة لبناء شخصية يصبح مقياس العدالة بالنسبة إليها يوازي معدلات الفقر والحرمان. أما القانون وسلطته فيتمثلان في احترام سلطة «زعيم العشيرة» أو «تاجر المخدرات» وتنفيذ أوامره طمعاً في الحصول على نوع من الحماية الاجتماعية والاقتصادية.
يتمثل القانون في احترام سلطة «زعيم العشيرة» أو «تاجر المخدرات» وتنفيذ أوامره طمعاً في الحصول على نوع من الحماية الاجتماعية والاقتصادية


وهكذا، فإن تربية الأبناء على كسر هيبة القانون يدفعهم إلى ارتكاب أعمال تبدو من وجهة نظرهم مشروعة، وتصبح الجريمة وسيلة للبقاء على قيد الحياة. ويتحول هؤلاء إلى ضحايا لعائلاتهم ومجتمعهم. فبحسب شمس الدين «أطفال مرتكبي الجرائم المنظمة يكبرون ويتربون على قواعد وقيم مختلفة عن الآخرين وبتنشئة اجتماعية تعتبر أن العنف حل طبيعي للمشكلات».

شركاء موثوق بهم
تتطلب الجريمة المنظمة أن يتعاون الجناة مع شركاء موثوق بهم. لتحديد وتجنيد الجناة الجديرين بالثقة، يميل الجناة إلى تفضيل الأشخاص الموجودين بالفعل في شبكاتهم الاجتماعية العائلية كالزوجة والأبناء والكنة والصهر. إذ يمكن لأفراد الأسرة أيضاً تجنيد بعضهم البعض بشكل أكثر نشاطاً في الجريمة المنظمة. وهذا يعني أن العائلات الإجرامية قد تكون نتاج عمليات متأصلة في الجريمة المنظمة، فتكون الروابط الأسرية هي البوابة لتجنيد الأفراد في عصابات منظمة.

الإجرام ... موروث؟
في العائلات الإجرامية، يتعرض كل جيل جديد لخطر «وراثة» السلوك الإجرامي لوالديه. فمن المرجح أن يشارك الأطفال الذين ينشأون في مثل هذه الأسر، في مرحلة ما، في المشروع الإجرامي لأسرهم، وأحياناً في سن مبكرة. لذلك تواجه سلطات إنفاذ القانون مشكلة مزدوجة. فمن ناحية، هي بحاجة إلى منع أفراد العائلات الإجرامية النشطين من ارتكاب (المزيد) من الجرائم؛ من ناحية أخرى، عليها منع العائلات الإجرامية من العمل كحاضنات للمجرمين الجدد.



يجرم قانون العقوبات اللبناني العصابات، فقد نصت المادة 336 على أن «كل جماعة من ثلاثة أشخاص أو أكثر يسيرون في الطرق العامة والأرياف عصابات مسلحة بقصد سلب المارة والتعدي على الأشخاص أو الأموال أو ارتكاب أي عمل آخر من أعمال اللصوصية يستحقون الأشغال الشاقة المؤقتة مدة أقلها سبع سنوات. ويقضى عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة إذا اقترفوا أحد الأفعال السابق ذكرها. ويستوجب عقوبة الإعدام من أقدم منهم تنفيذاً للجناية على القتل أو حاوله أو أنزل بالمجني عليهم التعذيب والأعمال البربرية».


سمعة العائلة


سمعة العائلة، وبشكل أكثر تحديداً ما قد تسببه من «تصنيف» labelling، قد تكون عامل خطر كبيراً لانتقال الإجرام بين الأجيال. فالنشأة في أسرة إجرامية لا تزيد فقط من احتمالية تبني السلوكيات الإجرامية، بل تزيد من المواقف المتحيزة والأحكام المسبقة للمحققين من احتمالية الإدانة والتجريم.
يمكن لسمعة العائلة أيضاً أن تغرس شعور «الخوف من الانتقام» لدى الضحايا والشهود، مما يؤدي إلى عدم التبليغ والادعاء التي بدورها تسهل الحياة المهنية الإجرامية. كما يمكن أن تؤدي سمعة العائلة إلى التمييز والاستبعاد، على سبيل المثال عندما يتردد أرباب العمل في توظيف شخص يحمل اسم عائلة معينة.