من دون مقدّمات، حلّت المحبة وحسن الجيرة والتفاني ونبذ الأنانية على إسرائيل. فها هي تريد للبنان أن يزدهر، ولأهله بحبوحة اقتصادية عبر استخراج غازهم ونفطهم، بعدما منعت عنهم ذلك طويلاً، بمعية الولايات المتحدة.«حسن الجيرة» جاء بعد مخاض رفض وعناد وإنكار دام أكثر من 12 عاماً من المفاوضات مع لبنان على الحدّ البحري والحقوق الغازية والنفطية للبنان. ولم يشمل العناد الإصرار على «بلع» ما أمكن من المنطقة الاقتصادية للبنان فحسب، وإنما فرض معادلات وصيغ تسويات مع شروط مسبقة: انصياع لبنان وإلا الحصار الاقتصادي ومنعه من الإفادة من ثرواته البحرية في كل حقوله الغازية والنفطية، القريبة والبعيدة عن الحد البحري جنوباً.
و«حسن الجيرة» المفاجئ «تصادف» مع تهديدات الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، كما تريد الرواية الإسرائيلية أن تسوّق. بعبارات لبنانية «ساءب» أن تزامن الرضوخ الإسرائيلي لكل مطالب لبنان مع التهديدات. أي أنها «صدفة» (وجمعها صُدُفات وصُدْفات وصُدَف)، وهي الحدث الذي يأتي من دون سبب محدّد ومعروف يسبقه ويتسبّب به.
والساحة اللبنانية ولّادة صدف، إذ إن «صدفة الغاز» الإسرائيلية سبقتها «صدفة كهرباء» أميركية تزامنت مع إعلان حزب الله نهاية العام الماضي استقدام المازوت الإيراني. وهي، وإن لم تبصر النور حتى الآن، إلا أنها مرشحة لذلك مع أنباء هبة الفيول الإيراني إذا ما سلمت نيات الجانب اللبناني المطواع رسمياً أمام المشيئة الأميركية.
«حسن جيرة» إسرائيل و«سخاؤها» الغازي شبيهان إلى حد بعيد بـ«أخلاقيات» الجيش الإسرائيلي الذي تقول الرواية العبرية إنه «الأكثر أخلاقية في العالم» وتدّعي أنه «لا يُقهَر». لكنه، وهو صاحب اليد الرخوة في الضغط على الزناد، يتشدّد في الامتناع عن استهداف اللبنانيين في أي ساحة. هنا أيضاً تلعب «الصدفة» دورها. فـ«أخلاقيات» الجيش الإسرائيلي، شأنها شأن «حسن الجيرة»، يرتبطان بمعادلات القوة والردع والخشية من الردود المقابلة، فيما «الأخلاقيات» نفسها تنتفي عندما يتعلق الأمر بهويات أخرى.
في سياق المفاوضات الجارية على خلفية تهديدات نصرالله، والتي من شأنها أن تنتج اتفاقاً وفقاً للشروط اللبنانية كاملة، تسعى «إسرائيل» - بشكل مفرط ومثير جداً - إلى محاولة إظهار رضوخها كـ«مكرمة» لا علاقة لها بالتهديدات من قريب أو بعيد. هي، إذاً، مجرّد «صدفة». لكن لماذا المبالغة في الإنكار مع كل كلمة في التعليقات العبرية طالما أن لا علاقة بين التهديد اللبناني والرضوخ الإسرائيلي؟
مع ذلك، لا ينبغي أن تتحكّم نشوة الانتصار بلبنان. فالنتيجة حتى الآن هي كل شيء، وفي الوقت نفسه لا شيء. وللتناقض هنا تفسيرات ترتبط باليوم الذي يلي. سبب «المكرمة» الإسرائيلية يكمن في تهديدات حزب الله التي ما كانت لتثمر لو لم يكن «متعشعشاً» في وعي صاحب القرار في تل أبيب، أن لدى الحزب قدرة على تنفيذ التهديد، وإرادة لاتخاذ القرار، وإلا لكانت «المكرمة» اقتصرت على «فضلات» تنقيب واستخراج من شمال «حقل قانا» وليس من جنوبه. لذلك، ما إن يشعر الإسرائيلي أن يد حزب الله تبتعد عن الزناد، وأن هناك ما يؤثر على القدرة والإرادة، فلن يكون لأي اتفاق أي فاعلية، وسيتحول إلى مجرد حبر على ورق.
يخطئ البعض أو يصيب في تفسير مبالغة إسرائيل في محاولاتها الحفاظ على صورة الاقتدار في معرض الرضوخ. فتهديدات نصرالله لا تقتصر على الرضوخ الإسرائيلي للمطالب اللبنانية لتنتفي بعده، بل تمتد مفاعيلها إلى مستويات موازية ترتبط ليس فقط بالصراع الغازي والحد البحري، وإنما أيضاً في الاستفادة من الرضوخ الإسرائيلي إلى أقصاه، والتأثير إيجاباً، ولمصلحة المقاومة، في المعادلات الردعية مقابل إسرائيل:
أولاً، يراهن العدو على إنكار العلاقة السببية بين استخراج الغاز من «كاريش» وغيره بتمكين لبنان من استخراج غازه. ولا يتعلق الأمر بصورة «إسرائيل»، وإن كانت مهمة لدى صانع القرار في تل أبيب، بل باليوم الذي يلي الاتفاق وبدء الاستخراج. وهي في ذلك تحاول أن تمنع تأثير المعادلة في المستقبل، في حال نجحت هي أو أميركا في عرقلة استخراج الغاز من الحقول اللبنانية. وهنا تأتي التساؤلات: هل تنسحب تهديدات حزب الله على ما سيلي، أم يكتفي بورقة الاتفاق الذي يبدو أنه في طريقه للولادة القيصرية؟ أما الجواب فواضح: حزب الله لم يجازف بوقوع حرب من أجل ورقة اتفاق، بمعنى أن استخراج الغاز من كاريش مقابل استخراج الغاز من لبنان قائم على معادلة تستأهل من تل أبيب وواشنطن التفكير بتبعاتها قبل أي عرقلة لاحقة. وهذا أحد أهم أسباب محاولات «إسرائيل» إبعاد صورة الرضوخ عنها.
ثانياً، أياً تكن نتيجة المفاوضات التي يقال إنها باتت وشيكة، لا يمكن لإسرائيل أو أي طرف آخر أن يمنع حزب الله من الاستفادة من ثقل كبير من شأنه أن يعزّز معادلته الردعية وأن يدفع «إسرائيل» إلى التفكير طويلاً قبل أن تقدم على اعتداء على لبنان، وأن تتسبب بمواجهة واسعة مع الساحة اللبنانية. وهذا الثقل هو المنشآت الغازية الإسرائيلية التي لن ترفع منسوب ردع حزب الله عن الساحة اللبنانية وحسب، بل من شأنها أن تدفع إسرائيل للتفكير خشية أن يتسبب هذا العامل في «فتح شهية» الحزب على أكثر من اتجاه ومستوى في مسيرة الصراع مع العدو. وإذا كانت إسرائيل تفكر مرات قبل أن تقدم على الاعتداء في لبنان أو استهداف صاحب هوية لبنانية، فستفكر بشكل مضاعف نتيجة «سلاح المنشآت» الذي بات في يد حزب الله، شأنه شأن أي سلاح نوعي يؤثر في قرارات إسرائيل وتوجهاتها الاعتدائية.
ثالثاً، فذلكة «إسرائيل» في فاعلية «منصتين متقابلتين: واحدة للبنان وواحدة لإسرائيل» مردودة. وفقاً لرواية إسرائيل التبريرية، تريد أن يكون للبنان ما يخسره، فإذا كان يملك منصة غاز، لن يقدم (حزب الله) على استهداف منصة غاز إسرائيلية خشية أن تستهدف تل أبيب رداً عليه، منصة الغاز اللبنانية. لكن على أصحاب هذه الفذلكة الرد على سؤالين:
- ألن يكون متاحاً لحزب الله أيضاً أن يمنع إسرائيل من استهداف المنشآت الغازية للبنان لأن لديها في المقابل منشآت غازية تخشى استهدافها رداً؟
- كيف لإسرائيل أن تستهدف حقلاً غازياً لبنانياً معظم ما فيه وعليه وداخله من منشآت وقطع وسفن وحفّارات، وكذلك جزء لا يتجزأ في ملكية الثروة الغازية والنفطية فيه، تملكه شركات تابعة لدول وازنة تخشى إسرائيل استهداف أصولها؟ فيما المقابل مغاير: لن يكون انكفاء حزب الله عن استهداف المنشآت الغازية لإسرائيل، رداً أو استباقاً أو تدحرجاً أو ما إليه، ربطاً بجنسية المنشآت وبنيتها التحتية، إن بادرت إسرائيل لاستهداف منشآت غازية لبنانية.
مسيرة كفاح لبنان، بمعية حزب الله، في تحصيل حقه الغازي، بدأت للتوّ. نعم، حقّق لبنان، أيضاً بمعية حزب الله وبسببه، رضوخاً إسرائيلياً وأميركياً لم يكن متصوَّراً. إلا أن الاتفاق هو بداية تحصيل الحقوق رغم أهميته الكبيرة. رضوخ الطرف الآخر ليس نهائياً، وسيحاول الالتفاف عليه إن أمكنه ذلك بطرق وأساليب أخرى، ما ينبغي أن يدفع لبنان ومقاومته لليقظة الدائمة وإبقاء اليد على الزناد، ليس لردع العدو عن منع إكمال مسيرة تحصيل الحق الغازي في المراحل المقبلة للتنقيب والاستخراج، بل أيضاً للمحافظة على الإنجاز المتبلور، وهو اتفاق الرضوخ الإسرائيلي نفسه.