شيّع مخيّم شاتيلا أمس الأول أحمد عبد اللطيف الحاج، ابن السبعة عشر ربيعاً، ويستعد غداً لتشييع أخيه نور، ذي التسعة عشر ربيعاً. أصابت العائلة نكبة فوق نكبات المخيم وقهر المعيشة فيه، لم يبقَ لأمّ محمد من معيلٍ لها ولبناتها الثلاث سوى بكرها محمد، فالوالد محمد توفي منذ أربع سنوات.لا يقوى الأخ الأكبر على الكلام، فلم يبقَ طويلاً بين المعزّين الذين جلسوا على الكراسي في شارع «جمعية أحلام لاجئ» بسبب عدم وجود قاعات تتسع لهم. فالشوارع هنا ضيقة وتختنق بالمارّة. سخرية القدر جعلت من اسم الجمعية شعاراً لأبناء المخيمات، «أحلام لاجئ» بالخروج من السجن اللبناني الكبير لعلّه يصل إلى بلاد تحترم إنسانيته، وتتيح له أن يرسل مبلغاً مالياً إلى أهله يقوون فيه على مقارعة الظروف. هذه كانت أحلام أحمد الذي أرسل رسالة صوتية إلى أمه بعد ركوبه وأخاه «مركب الموت 2». يطمئنها عنهما، ويقول: «أنا يا أمي طلعت، ادعيلنا»، ذلك قبل انقطاع الإرسال نهائياً.

المحاولة الأخيرة
لم تكن هذه المحاولة الأولى لأحمد ونور، ولكنها كانت الأخيرة. قبلها حاولا المغادرة عبر طرابلس أيضاً، إلا أنّ المحاولة فشلت بعد «مداهمة من قبل المخابرات، فعادا إلى شقة هناك تجمّع فيها عدد من المهاجرين» بحسب أنس الحاج، عمّ الشابين. وفي رحلة الموت الأخيرة غادر المخيّم أربعة شبان، توفي منهم أحمد ونور، الشاب الثالث لا يزال حتى السّاعة مفقوداً، أو لم يجرِ التعرّف إلى جثته من قبل ذويه. أما الشاب الرابع الذي التقيناه ورفض الكشف عن اسمه أو عنوانه، فهو وصل إلى طرابلس معهم، وبعد معاينته المركب المحمّل بأكثر من 60 راكباً فضّل الرجوع، من دون أن يكشف عن كل الأسباب الكامنة خلف ذلك.
يستكمل عمّ الأخوين الحاج كلامه عن المركب الذي «أضيف إلى ركابه العشرات من نقاط تحميل أخرى، حتى وصل العدد إلى 175، فتوقفت محرّكاته في البحر مقابل الشواطئ السّورية، وجرفته الأمواج العاتية». ولكن لم يُكتب الموت لجميع الركاب، منهم من أنقذته أجهزة الدفاع المدني السورية، ومنهم من سبح لأكثر من عشر ساعات حتى وصل إلى شواطئ طرطوس، كالشاب جهاد المشلاوي من مخيم برج البراجنة، الذي لم نتمكن من التكلم معه بسبب وضعه الصحي الدقيق حالياً.
يربط عدد من قاطني المخيم محاولة الشبّان الهجرة بـسمسار يُعرف باسم «أبي خليل»


روايات الغرق
تعدّدت الروايات حول غرق المركب، كلّها تدور حول عطل في المحرّكات ولكنها تختلف على ساعة وقوع المشكلة. الرواية الأولى تحكي عن وقوعها أمام الشواطئ السورية. وبسبب ارتفاع مستوى الموج، والعدد الكبير من الركاب وقعت الكارثة، فيما ينقل رفاق الشابين الحاج في المخيم رواية أخرى تتكلم عن «تحريك المركب بقوة السّلاح من طرابلس، ومن بعدها غادر المسلحون المركب المعطّل قبل غرقه».
حسين الديماسي مسؤول الدفاع المدني الفلسطيني في مخيم شاتيلا يفيد بـ«توجه سيارات من المخيم صوب الشمال بعد تبلغهم بانقلاب مركب على متنه عدد من الشباب الفلسطينيين». ويضيف: «أعداد الضحايا غير دقيقة، ويُراوح بين 90 و95 شخصاً بينهم أطفال»، ثمّ يتكلم عن «كارثة كبرى» تتمثل في «عدم قدرة ذويهم من التعرّف إليهم بسبب التشوهات الكبيرة». حال الجثث هذه يعيدها الديماسي إلى «عدم وصول البلاغ بالحادثة إلى أجهزة الإنقاذ مباشرة، بل تأخرت لـ24 ساعة»، ويتكلم عن «موت عدد كبير من ركاب المركب غرقاً عند انقلابه مباشرةً، سيّما الأطفال، وبقاء 36 منهم حول المركب، الذين لم ينجوا كلّهم أيضاً». إذاً، بقيت الجثث وقتاً طويلاً في البحر، وجرفتها الأمواج صوب الصخور، ما أدى إلى تشوّهها قبل تدخل الأجهزة السّورية والبدء بسحبها من الماء.

سماسرة الموت
يربط عدد من قاطني المخيم محاولة الشبّان الهجرة بـ»أبي خليل»، أحد السماسرة الذين يعملون على إغراء الشباب بالمغادرة. يرسمون لهم مستقبلاً زاهراً ورحلةً من دون متاعب تُذكر، فيدفعون مقابل الرحيل مبالغ تُراوح بين أربعة وخمسة آلاف دولار. يؤمّنون هذه الأموال من بيع ممتلكاتهم على اختلافها، حتى الهواتف تُستبدل بأخرى أرخص ثمناً لتأمين تذكرة المغادرة، فلا يبقى معهم سوى بعض الملابس قبل الرحيل. بحسب شباب المخيم «مهمة السمسار تنتهي بإيصال الراغبين بالرحيل إلى المراكب»، وما أكثرهم. بمعاينة بسيطة لأزقة المخيم وأبنيته تدرك تماماً أسباب الرحيل الكثيرة، فـ»الرحلات لن تتوقف، وكلّ طلعة سيحاول عدد من الشباب المغادرة»، البيوت هنا لا تدخلها أشعة الشمس نهاراً، والناس يتكدّس بعضُهم فوق بعض في محاولة للنجاة والبقاء على قيد الحياة.
يروي أحدهم عن «محاولته الهجرة خمس مرات» من دون أن يتمكن من الوصول إلى المركب، ويعد بـ»الاستمرار». يستنكر الناس هنا كلام البعض في الإعلام أو عبر وسائل التواصل عن «استغرابهم رحيل من يمتلك بضعة آلاف من الدولارات اليوم في لبنان»، ويطلب أحدهم أن نكتب في الجريدة طلبه لهم بأن «تعالوا إلى المخيم، ادخلوا منازلنا، عاينوا حياتنا»، ويضيف آخر: «البحر أكثر رأفة من لبنان، يقتلنا مرة». يموت في المخيم المرء ألف مرة دون أن يعلم بحاله أحد، وكذلك في البحر سيموتون ولكن مع بعض الضجيج الإعلامي الذي يخفت كلّ مرة أكثر وأكثر.