منذ أن سُلب المودعون حق الوصول إلى مدخّراتهم اعتباراً من مطلع 2020 ولغاية اليوم، عمدت قوى السلطة بيد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة والمصارف، إلى تشريع الأمر الواقع وفرض القيود على عمليات السحب والتحويل. بمعنى أبسط، اختارت هذه القوى أن تنفذ كابيتال كونترول غير شرعي واستنسابي. وشيئاً فشيئاً، بدأت تقونن الأمر عبر تعاميم يصدرها مصرف لبنان من دون أي تنسيق مع السلطة المركزية، باستثناء بعض الأدوار التي حفظها سلامة لنجيب ميقاتي منذ تكليفه بتشكيل حكومته التي أصبحت اليوم مستقيلة. بهذه التعاميم، رسم رياض سلامة كل السياسات في لبنان. سياسة الدعم، الإنفاق العام، الإنفاق الخاص، السياسة الضريبية... كان يتحكّم بكل مفاصل البلد، مستكملاً ما قام به مع زملائه في منظومة المصالح، أي تبديد المدخرات.ففي جردة واضحة للسنوات الثلاث من حكم سلامة وشركاه، تبيّن أن الودائع كانت تبلغ 176 ملياراً منها 123 ملياراً بالدولار، وانخفضت في منتصف السنة الجارية إلى 99 مليار دولار ومنها نحو 40 ألف مليار مسجّلة بالليرة اللبنانية التي أصبحت قيمتها تناهز المليار دولار. القيمة الفعلية لهذه المدخرات لا تتخطّى 15 مليار دولار، إنما لا يمكن الوصول إلا إلى القليل القليل منها بسبب القيود غير الشرعية.
عموماً، سلامة والمصارف وشركاؤهما في الحكم، لم يقتنعوا بعد أن أمر ما قد حصل. بل واصلوا القيام بما اعتادوا القيام به على مدى الـ26 عاماً الماضية. استقطاب الودائع، ثم تبديدها. هذه العملية تكرّست كسياسة عامة منذ قرّرت السلطة الاقتراض بالدولار في عام 1997. منذ ذلك الوقت بدأ استنزاف أموال المودعين وتراكم الخسائر، أو ما يسمى السرقة غير المباشرة، لكن هذه العملية التي كانت تحتضن بشعارات من نوع الاستقرار السياسي، واستقرار سعر الصرف، وفّرت لهذه القوى ثباتاً في الحكم دام لنحو ثلاثين عاماً. وفي المقابل، حقّقت المصارف أرباحاً طائلة من خلال المشاركة في عملية استقطاب الودائع، وفي عملية تبديدها أيضاً. فهي كانت القناة الأساسية لاستقطاب الودائع من الخارج وإقناع الزبائن بأن المخاطر في لبنان محدودة وأن الأرباح من الفوائد مجزية، والقناة الأساسية للتبديد من خلال إقراض الدولة ومصرف لبنان. وقد راهنت السلطة ومصرف لبنان وسائر المصارف على استمرار النموذج عينه، من تدفّق الأموال إلى خزانات المصارف واستنزافها وتحقيق الأرباح وتبادل المنافع. هكذا حتى العام 2019، وتشارك الأطراف الثلاثة في السرقة المباشرة للودائع من خلال تهريب أصحاب الودائع الكبيرة لأموالهم خارج البلد.
أديب نعمة: اقتحام المصارف سلوك فردي مشروع تأخّر حدوثه


استمرّ الأمر لغاية الفترة التي بدأت تهبّ رياح معاكسة، أي أن النموذج لم يعد قادراً على استقطاب الودائع من الخارج، لأسباب خارجية ومحلية. بدأت تظهر المؤشرات في 2015، وفي السنة التالية عمد مصرف لبنان إلى تنفيذ الهندسات، أو التزخيم الأكبر لعملية الاستقطاب من خلال إغراء أصحاب الودائع بأرباح طائلة من خلال الفوائد... في هذا الوقت لم تعد التدفقات الآتية من الخارج تصبّ في شرايين النموذج كما في السابق، بل شحّت إلى الحدّ الأدنى. وفي 2019، توقفت نهائياً وانهار النموذج.
في مواجهة هذا الانهيار، كانت القوى الحاكمة عاجزة عن القيام بشيء. لذا، قرّرت أن تضع الأمر كلّه بيد الحاكم رياض سلامة. وهذا الأخير بدأ يتصرّف بما تبقى من مخزون لديه من السيولة بالعملات الأجنبية، على هواه، وكما يخّطط هو. اتخذ القرارات، ونفذها، سواء برسائل شفهية أو غير رسمية إلى المصارف، أو عبر تعاميم رسمية... كل القرارات أدّت إلى أمرين: تعددية سعر الصرف، وتحديد سقوف لعمليات السحب والتحويل. كان الحاكم هو من يحدّد الخاسر والرابح في هذه اللعبة. وبالفعل، أتى التضخّم ليأكل ما تبقى من قيمة المدخرات، ثم أكل الأجور أيضاً. لم يبق أمام المودعين، سوى سحب الفتات. ومع استفحال الأزمة واشتداد الأوضاع المعيشية صعوبة، من دولرة للأقساط المدرسية والخدمات الطبية، والبنزين وارتفاع مؤشّر أسعار كافة السلع، ما عادت تنفع تعاميم الحاكم التي صممت للتحايل على هذه الأوضاع وإسكات المودعين. ومع انتهاء همروجة «أهلا بهالطلة» واقتراب إقرار موازنة تزيد الضرائب والرسوم وتصعّب الحلول، لاح استنزاف إضافي في ميزانيات الأسر المنهكة أصلاً بغلاء الأسعار وبغياب المدخرات المنهوبة.
هكذا انفجر غضب الناس أمام المصارف، وهو غضب متوقع «تفاقمه وترجمته بأشكالٍ أخرى من التعبير، مع استعدادنا في المرحلة المقبلة لمزيد من الانهيارات تستتبعها ردود فعل» على ما يقول المستشار في التنمية ومكافحة الفقر أديب نعمة. ويضع نعمة مشهدية الاقتحامات في خانة «السلوك الفردي المشروع لانتزاع الحق والذي تأخّر حدوثه، مقارنة ببلدان أخرى قد يكون فيها أكثر عنفاً وأبكر توقيتاً». من دون أن يتوهّم أحد أن «هذا السلوك يندرج في خانة العمل الثوري الجماعي، رغم شرعيته كرد فعل فردي».
أهم ما في الأمر، أن هذه الحوادث بمثابة شرارة قد تخلق آليات مختلفة، إيجابية أم سلبية وقد لا تحدث تغييراً قط. بمعنى أن المصارف المصممة على إنكار إفلاسها لكننها تتعاطى مع المودعين على أنها مفلسة، «إما ستذهب إلى خيار الأمن الذاتي أو قد يدفعها ما يحصل إلى مراجعة أدائها» يقول نعمة.



إرباك جمعية المصارف
قرّرت جمعية مصارف لبنان تنفيذ إضراب لمدة ثلاثة أيام، زاعمة أنها تتعرض للعنف وأنها تدفع المخاطر عن الزبائن الموجودين في الفروع. لكن الواقع، هو أن الجمعية كانت مربكة جداً في التعامل مع ردود فعل المودعين الغاضبين الذين يقتحمون فروع المصارف من أجل استرداد ودائعهم عملاً بقاعدة استرداد الحق بالذات. وتتغافل المصارف عن أنها السبب الرئيسي في عملية نهب الودائع المنظمة التي جرت طوال العقود الماضية. وإرباك أصحاب المصارف مردّه إلى خوفهم من أن تتطوّر هذه التحرّكات إلى سلوك منظّم ومتواصل، لذا، منحت نفسها فرصة للنقاش في هذا الأمر من خلال الموافقة على مطالب الإقفال من أصحاب المصارف التي تعرضت لعمليات من المودعين في اليومين الماضيين.