من شاهد احتفالية 14 أيلول في الأشرفية بالصوت والصورة، عليه أن يعاود الكرّة ولو مكرهاً، بالصوت من دون صورة أو بالصورة من دون صوت. ربط الصوت بالصورة يجعل المشهد هزلياً إلى درجة تحول دون استيعاب خطورته. أما مشاهدة كتل الدهون البشرية التي تتصبّب عرقاً لمجرد وقوفها بضع دقائق، من دون صوت، فتتيح التركيز أكثر والاستيعاب بأن زمناً غابراً (وأغبر) يعتقد بأن في وسعه القيامة من بين الأموات.في حالة الصوت من دون صورة، يتأكد المستمع أن خبر قناة المر عن «خبز الهادي» ليس خطأ عابراً، إنما وهم مقيم في نفوس وعقول لا تفهم الجغرافيا والتاريخ والديموغرافيا والسوسيولوجيا وعلم الحساب والاقتصاد. وهي، خلافاً لطبيعة البشر، لا تستخلص أيّ عبر من تجاربها المريرة. وإذا كان كثيرون يعتقدون بأن المشهد هزليّ، إلا أنه في الواقع مؤشر خطر - على صاحبه أولاً وأخيراً - أن يكون شخص (أو مجموعة) على هذا القدر من الجهل بحجمه وقدراته. فترجمة ما يقوله هؤلاء هي أنهم يعتقدون فعلاً بأن هناك في العالم من يظنّ أنهم أكثر من مجرد أدوات مهترئة وصل مستخدموها منذ عقود إلى قناعة راسخة بأنها تصلح للتخريب لا للبناء، وأنهم يعتقدون فعلاً بقدرتهم على إعادة خوض الحروب التي خسروها عندما كان مجتمعهم شاباً ومندفعاً ومسنوداً ومؤمناً بوجود ما يخسره.
أمنياً وعسكرياً، هناك بين المسيحيين من يوهم نفسه أنه قادر على ما عجزت إسرائيل ومئات آلاف التكفيريين عن فعله.
سياسياً، هناك من يتوهّم بأن الولايات المتحدة كانت لتضيع دولاراً واحداً من ضرائب الأميركيين في هذا البلد لو لم يكن حزب الله موجوداً هنا، وهناك من لم ينتبه بعد إلى أن العلاقة الوحيدة التي تعني «الأم الحنون» للبنان هي العلاقة مع حزب الله، وإلى أن الفرنسيين يناقشون اليوم مع الحزب، لا مع المرجعيات المسيحية، الملف الرئاسي وما يهمّ مصالحهم الاقتصادية وغيرهما من الملفات التي كانوا يناقشونها مع الرئيس رفيق الحريري ثم مع ورثته منذ الطائف.
اقتصادياً، هناك من يحرّض، بكل وقاحة، على «ربطة خبز شيعية» في «دكّانة مسيحية» من دون أن يفكّر ولو للحظة بما يمكن أن يحصل لـ«سانيتا» و«بوبنز» و«ماستر» و«تنورين» و«تعنايل» و«خوري» و«هوا تشيكن» فيما لو صغّر الجمهور المُستَفَزّ عقله وقرّر معاملة الأغبياء بالمثل.
عملياً، هناك اليوم بين المسيحيين من لا يعرف شيئاً عن توزع الثروة في هذا البلد، وعن مستويات المعيشة في المناطق، وعن اللون المذهبي للطلاب في الجامعات الخاصة (خصوصاً الأميركية والأميركية اللبنانية واليسوعية والحكمة والمعهد الأنطوني)، وعن البؤر الحقيقية للفقر. وهناك من لا يزال يعتقد بأنه أعلى شأناً ومرتبة ومكانة علمية وثقافية من سائر المكوّنات اللبنانية، ويحمل جهله المطبق هذا متنقّلاً بين المنابر والتلفزيونات. والمؤسف أكثر أن هؤلاء ليسوا قواعد شعبية بسيطة بل «زعامات» و«مرجعيات» ومقامات.
في «لحظة» امتدت ثلاث سنوات، بين عامَي 2006 و2009، بدا أن أكثرية مسيحية تجاري الرئيس ميشال عون في الرغبة بالخروج من عنق الزجاجة التي حشرتها «خيارات بشير» فيها. كان خيار بشير التحالف مع إسرائيل، فجاء عون بخيار التحالف مع حزب مقاومة إسرائيل. كان خيار بشير لبنان جزيرة خلف جدار عازل عن عمقه العربيّ، فجاء عون بخيار لبنانيّ مشرقيّ يستمد دوره الاقتصاديّ من عمقه العربيّ المتمثل بسوريا والأردن والعراق. اختار بشير الذهاب إلى إسرائيل، واختار عون الذهاب إلى دمشق وبراد وطهران. كان خيار بشير أحلاماً فيدرالية، فيما كان خيار عون شعاره الأشهر بأن لبنان أكبر من أن يُبتلع وأصغر من أن يُقسّم. وصل بشير إلى سدة الرئاسة على الدبابة الإسرائيلية، ووصل عون إلى بعبدا على أكتاف المجاهدين في حزب الله بعد تسطيرهم بطولات في سوريا غيّرت معادلات في لبنان والمنطقة. كان خيار بشير العنف والقوة والإلغاء داخل بيئته، فيما اختار عون زيارة سمير جعجع في سجنه وتوقيع اتفاق معراب ومحاولة استيعاب سليمان فرنجية والياس سكاف وميشال المر عام 2005 بدل عزلهم. كان خيار بشير خطاباً شعبوياً غرائزياً لا يقيم حساباً للاستقرار، فيما كان خيار عون خطاباً عقلانياً يدفع ثمن الاستقرار تفاهمات هنا وهناك. أراد بشير للمسيحيين (خصوصاً في الأقضية البعيدة عن بيروت) أن ينزحوا إلى أطراف جبل لبنان لحماية عرينه، فيما أراد عون لأبناء القبيات وشدرا ورميش ومرجعيون الاستقرار في بلداتهم والانسجام مع محيطهم. كان خيار بشير الرهان الأعمى على الغرب ممثَّلاً بالولايات المتحدة، فيما أدرك عون أن من «جرّب المجرب كان عقله مخرب»، وقد جرّب مسيحيو الشرق الولايات المتحدة وفرنسا عشرات المرات ولم يحصدوا إلا الخيبات. خيارات بشير أدّت إلى خسارة المسيحيين كل ما راكموه من امتيازات منذ القائمّقاميّتيْن، فيما أعادت خيارات عون السياسية (حتى ولو كان مقرّباً من بشير في شبابه) للمسيحيين ما تبقّى من صلاحيات وتمثيل نيابي ووزاري ورئاسيّ. لكن، رغم هذا كله، لم يدم «الاقتناع» المسيحي بخيارات عون كثيراً، وكأنّ هذا المجتمع مسنّاً أراد تجربة «شيء جديد» لبضعة أيام، قبل أن يعود إلى عاداته وتقاليده وطريقة تفكيره و«قدسية بشيره».
ما يحصل اليوم ليس عادياً. مشهدية الأشرفية الأخيرة، والاستعلاء الفارغ والغبيّ والمَقيت الذي يُعبّر عنه يومياً على مواقع التواصل الاجتماعي، ونتائج أقلام الاقتراع المسيحية للقوات والكتائب والمجتمع المدني التابع للسفارة الأميركية وكل المزايدين على النائب السابق فارس سعيد في مقارعة «الاحتلال الإيرانيّ»... كلّها تفيد بفشل محاولات إخراج هؤلاء من تحت أنقاض المبنى الذي هوى فوق بشير الجميل، وبأن هناك من يصرّ على أن يدفن نفسه مع بشير ومشروعه. مع ضرورة الأخذ في الحسبان أن التذكير بارتكابات بشير وقواته لا يفيد مسيحياً، كما لا يفيد التذكير الضروريّ بارتكاباته في البيئة المسيحية نفسها أكثر من كل ما ارتكبه خصوم المسيحيين المفترضون. المفيد - ربما - هو المقارنة السريعة بين ما سلّمته المارونية السياسية لبشير، وما سلّمه بشير لمن خلفه؛ هنا، وهكذا، تُقيّم البطولات والمسيرة والتجربة والمشروع و«الحلم».
سلّمت المارونية السياسية بشير كل ما لديها فأضاعها بخياراته السياسية الغبية. يومها كان المسيحيون في ذروة قوتهم، سياسياً واقتصادياً ومالياً وديموغرافياً واستشفائياً وإعلامياً وتربوياً، وكان هناك في الداخل والخارج من يتعامل معهم بجدية. اليوم، نتيجة التهوّر الذي دفعهم بشير إليه لم يبقَ من هذا كله في الداخل والخارج إلا مكرمات الاستخبارات السعودية و«غمرات» السفير وعبثية غرائزية تستسهل الانتحار.