يظن بعض الشيوعيين أنّ التوالي الزمني بين موت حسن عوالة ومازن عبود وبين الذكرى الأربعين لانطلاقة «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية»، تقدير مقصود للتنبّه لرفاقهم الأحياء. أولئك الذين ينتظرون نحبهم، لا على الجبهات والثغور، بل بالسرطان وداء الأعصاب و... في بيوت منسيّة عاثت فيها القلة بصمت. لكنّ صحوة المتناسين في العيد الأربعين لم تتجاوب معها خيبة المنسيّين الذين لم يكترثوا لرثاء يسبق موتهم. معظهم تأقلم مع التهميش وانشغل بتحصيل قوته ودوائه. رفضوا إجراء مقابلات للحديث عن بطولاتهم إما «لأننا عملنا واجبنا»، أو «لأننا قرفانين». بعد إلحاح، وافق فهد مدلج على استقبالنا، لا لاستعراض تاريخه الذي كانت عمليتا صيدلية بسترس ومحطة أيوب إحدى صفحاته، بل «كرمى للرفيق مازن الذي تحلّ مناسبة 16 أيلول للمرة الأولى من دونه، ولكي يعرف الجيل الشاب ماذا صنعنا».لا يعرف أبو زياد كيف يدلّنا على بيته في كفرصير. «منذ 14 سنة، انتقلت إلى بلدة زوجتي بعدما اشتريت منزلاً مع حديقة بسعر لقطة، وبعت منزلي في بلدتي كفررمان لأنّي لم أتمكن من إنجازه». هناك، صارت شتلات الحاكورة خلف البيت الصغير رفاقه، ومنشار الحطب شغله الشاغل هذه الأيام، ليس لتحضير مؤونة الشتاء فقط، بل لأن لا شغل له سواه. منذ أكثر من عام، صار مدلج عاطلاً من العمل بعدما صُرف من عمله في مستشفى الشهيد حكمت الأمين. رفض قبض تعويضه «لأن لا شيء يعوّضني عن خدمة عشرين سنة في المستشفى وقبلها ثلاثين سنة في الحزب الشيوعي اللبناني». في ضائقته المادية، لم يجد سوى الرفاق في منظمة الحزب في كفررمان. «لمّوا من بعضهم لتأمين مصروفي وثمن أدويتي طوال عام. طلبت منهم التوقف قبل أربعة أشهر عندما تمكّن ابني من السفر إلى أفريقيا للعمل. فصار المنقذ للعائلة، فيما أنا أحرتق كشغيل بالفاعل».
من أين ندخل معه في 16 أيلول ودوره في إطلاق الرصاصة الأولى على جنود الاحتلال الإسرائيلي أمام صيدلية بسترس مع رفيقيه مازن عبود وعمار جرادي وبمساعدة بلسم أيوب؟
لم يتمكن مدلج من حبس دموعه الحارقة على مصير المقاومين كمازن. تكاد كفّاه المنخورتان، المتماهيتان مع لون التراب، أن تصفعا محدّثه عن الماضي. «أين كنا وأين أصبحنا؟ تحدثنا كثيراً عن قرارنا الفردي بتنفيذ عمليات ضد من فكّر بتدنيس أرض سيدة العواصم. خطّطنا ونفّذنا عمليتَي بسترس ومحطة أيوب بعيد إطلاق نداء الجبهة وساهمنا مع شربل عبود بالتخطيط لعملية الويمبي مع رفاقنا القوميين. جمعنا رشاشات وقذائف من هنا وهناك. لكنّ السلاح الأقوى لدينا كان الإرادة التي جعلتنا نجبر أقوى الجيوش على الانسحاب من بيروت خلال أسبوعين».
أول الأعياد لدى الثلاثي فهد وعمار ومازن، رؤية ملالات العدو تشتعل بقذائفهم. وأكبر الأعياد كان سماعهم نداء «يا أهالي بيروت لا تطلقوا النار. نحن منسحبون». كانت المجموعة في منزل مدلج في الظريف. «لم نكن مسلحين، لكننا نزلنا وركضنا خلف مواكبهم كالأطفال نغني ونرقص، من الحمرا إلى الطريق الجديدة والسفارة الكويتية».
يرغب لو يتحوّل موت مازن إلى محفّز للشيوعيين لتوثيق تجربة الجبهة


لم يرغب أبو زياد بالإفصاح عن تفاصيل ما أنجزه هو ورفاقه. «عملت قناعتي وخلص». يبدي ندمه على موافقته على الظهور في فيلم «سلملي عليه» الذي أعاد تمثيل عملية بسترس. «لم تكن فكرة الحزب لتخليد هذه الذكرى، بل مبادرة من المخرجة ربى عطية. مع ذلك، استأذنت أنا ومازن القيادة قبل الموافقة على المشاركة. ويا ليتنا لم نظهر. فضحنا أنفسنا وسرقنا الضوء من مقاومين آخرين صنعوا أكثر منا من عكار إلى تلة مسعود».
استقال أبو زياد من العمل الحزبي بعد اغتيال الأمين العام السابق للحزب جورج حاوي، الذي كان مرافقه بداية الثمانينيات. «لكنّي لم أستقل من شيوعيتي ومقاومتي». العسكرية «شلحته» كل شيء حتى اسمه. التصق باسمه الحركي حتى بعد عودته مدنياً، على غرار مازن أو عبد الكريم عبود. وفاة الأخير أعادت فهد إلى مواقع التواصل. فهو أكثر من يظهر في الصور معه حتى آخر أيامه. لا يريد مرثية مبكرة أو عطفاً. يرغب «لو يتحوّل موت مازن إلى محفّز للشيوعيين لتوثيق تجربة الجبهة وتكريم صانعيها في حياتهم لكي تتعزّز ثقافة المقاومة لدى الجيل الشاب». لا ضير من أن يعرف الشيوعيون الجدد بأن «مازن اعتاش من عمله كسائق تاكسي وعاش في غرفة منسياً. ولا ضير من أن يعلموا بأن معظم من شيّعه من مقاومي الزمن الأول، هم خارج التنظيم حالياً. ولا ضير من أن يعلموا بأن مازن نفسه وأنا، لم نُدع ولو لمرة واحدة للمشاركة في إحياء ذكرى عملية بسترس». يظنّ فهد بأن تلك الحقيقة المرّة «لن تبعث الشباب على اليأس والاعتكاف كما فعلنا، بل على العمل لحفظ ذاكرة جمّول تكريماً للشهداء والمقاومين».