يُروى أن امرأة في إحدى قرى جبل لبنان، طلبت من زوجها ذات يوم أن يمرّ أثناء تجواله لبيع القماش على ابنتيهما المتزوّجتين في قريتين مختلفتين. وهكذا فعل، زار الأولى المتزوّجة بمزارع في بسكنتا فوجدها تزرع الثوم. والثانية في بيت شباب تساعد زوجها في صناعة الفخار. وعندما عاد ليلاً إلى بيته سألته زوجته عنهما؟ قال لها: إن الأولى طلبت أن تصلي لها كي تمطر من أجل إنبات الثوم قبل أن تتلفه أشعة الشمس. والثانية طلبت الصلاة لكي لا تمطر فتُخرب الفخاريات. نستطيع أن نتخيّل حيرة الأم، ولكن ما دلالات القصة، المصدر الأساسي للثقافة وتوجيه السلوك آنذاك. لا توحي هذه السردية بأن التغيّرات المناخية كانت على الطلب بالطبع، بل إن "الطقس" كان يحدّد مصير الإنسان في عمله ورزقه. ولم يكن أحد يجسر على الظن بأن يأتي يوم يصبح الإنسان هو الذي يتسبّب بالتغيرات المناخية، ولا سيما بمظاهرها المناخية المتطرفة!
لطالما قيل إن مشكلة البيئة هي في جانب كبير منها سلوكية. أو بالأحرى هي نتاج منظومة من القيم والمعتقدات المكتسبة مع تطوّر الحضارة، ولا سيما ما بعد الثورة الصناعية، أو هي ناجمة عن ثقافة استهلاكية صنعتها وسائل الإعلام والإعلان، وفنون متعددة في طليعتها السينما والأفلام. من هنا فكّر البعض في العالم باستخدام الوسائط نفسها لإنتاج ثقافة بيئية مضادة أو منقذة.
ضمن هذا الإطار، نظّمت "بيروت دي سي" ومجلس البيئة في القبيات يوماً تحت عنوان "سرديات للبيئة" ضمن فعاليات مهرجان "الريف" السنوي الذي يُعقد في القبيات، جمعت فيه خبراء في البيئة والمناخ مع مخرجين ومنتجين وصنّاع للسينما، لإنتاج شراكات تساهم في صناعة سينمائية خضراء، نظراً إلى ما للأفلام من قوة تأثيرية تساهم في تغيير السلوك. ذهب الحوار في بعض جوانبه إلى كيفية تحوّل الإنتاج السينمائي بحدّ ذاته إلى اللون الأخضر لناحية التوفير في استخدام الموارد والتخفيف من إنتاج النفايات أثناء التصوير. وتم إنتاج "الدليل الأخضر" الذي يرشد صنّاع الأفلام إلى طرق التقليل من إنتاج الكربون والبلاستيك وغيرهما من الملوّثات، نظراً إلى ما تنتجه صناعة الأفلام من الغازات الدفيئة. فكل حلقة تلفزيونية عاديّة من ساعة واحدة تنتج على سبيل المثال 13.5 طناً من غاز ثاني أوكسيد الكربون. وكلّ سلسلة حلقات من الدراما التلفزيونيّة المصوّرة داخل الاستديو تنتج 54 طناً في الساعة من هذا الغاز. وكلّ عرض تلفزيوني مصوّر داخل الاستديو ينتج 3 أطنان منه. وكلّ موقع تصوير نموذجي (سينمائي أم تلفزيوني)، ينتج ما قد يصل إلى 363 كلغ من النفايات في اليوم الواحد، علماً أن 80% من هذه النفايات قابلة لإعادة التدوير أو التسبيخ…
إلا أن الإشكالية الأهمّ التي طُرحت، هي حول كيفية إنتاج مادة معرفية في المضمون تساهم في تغيير السلوك، ولا سيما حين تُطرح قضايا كبرى ووجودية مثل تغيّر المناخ.
المشكلة الأبرز طُرحت مع المحتوى إذاً. ما الذي يساعد في اختيار المحتوى الأنسب لإيصال الرسالة الخضراء، وما الذي يحدّد جوهر القضية؟ وهل الفن هو الذي يصنع القضية أم أن القضية هي التي تستجلب الفن؟
عُرضت في المناسبة مشاهد من فيلم حول قضية النفايات، تدور قصتها حول تأثر السكان المحيطين بمكب نفايات. ولكنّ السؤال "التوجيهي" الذي طُرح، هل المشكلة هي في المكان كما يقول "خبراء" النفايات والبيئة، أم المشكلة هي في السلوك الإنساني (من المسؤول إلى المنتج ثم المواطن المستهلك) غير المبالي في إنتاج النفايات؟! أم هي في نظام القيم، أم في قوى الإنتاج واقتصاد السوق المسيطر القائم على زيادة الإنتاج والاستهلاك؟ وكيف يمكن للأفلام أن تعكس كل هذه الخلفيات وتساهم في تغيير السلوك، كما تطمح الأهداف؟
كما طُرحت إشكالية أي نوع من الخبراء والعلماء والنشطاء تحتاج إليه صناعة الأفلام الخضراء؟
لقد تم تمجيد وتكريم نائب الرئيس الأميركي آل غور ومنحه جوائز كبرى… لإنتاجه فيلماً عن تغيّر المناخ، مع أن "الفيلم" الحقيقي الذي أنتجه لإنقاذ بروتوكول كيوتو عام 1997 في اللحظات الأخيرة، كان في اقتراحه "بيع الكربون"، اي أن تبني البلدان الصناعية مشاريع صغيرة صديقة للبيئة في البلدان النامية وتحسم من حصتها الإنتاجية للكربون! أي في الحصيلة، عدم تراجع البلدان المتقدمة عن نمط إنتاجها الكربوني المدمّر للمناخ… ما تسبّب بفشل الاتفاقيات الدولية ذات الصلة وزيادة الكوارث المناخية، بدل التخفيف منها!
فعلى أي معطيات علمية يفترض أن تستند الأفلام الهادفة بأن تكون خضراء وصديقة للمناخ في سردياتها، بعدما أصبحت موازنات الشركات الكبرى لدعم البحث العلمي أكبر بكثير من موازنات الدول؟ ومن يدعم الإنتاجات الكبرى لصناعة الأفلام غير كبار الملوّثين؟ وفي هذه الحال، ألا نحتاج إلى سرديات جديدة حول "تطوّر" العلوم أيضاً؟ ألا نحتاج إلى العودة إلى الوظيفة الأساسية للسرد التي تعني التسلية والإبداع بـ"اللعب بالكلام" بدل تمجيد الإنجازات بـ"فعل" يناطح السحاب تارة وينقّب عن اللعنات طوراً؟!
فسرديات ما بعد الكوارث باتت تحتاج إلى صناعات سينمائية متواضعة تؤكد على ضرورة تواضع العلم والعلماء أمام الكوارث (مثل تلك المناخية). أفلام تمجّد الإنجازات الصغيرة، و"تشيطن" تلك الكبيرة المتحدية للطبيعة وقوانينها، على قاعدة أن ما من علم يستطيع أن يضع حداً للعلم، وعلى اعتبار أن الحقيقة العلمية، بالتعريف، هي "الحقيقة القابلة للنقض". بهذه الحالة تتساوى السرديات مع العلوم في لا نهائيتها، أي بكونها لا تنتهي. كما تتشارك مع الطبيعة بتنوّعها وتعدّدها بإنتاج حقائق متعددة. عندئذ يصبح البحث عن الانسجام بين الأنواع، وبيننا وبين الطبيعة، هو المدخل للمعرفة عامة، وهو المدخل لمعرفة كيفية "التكيّف" مع التغيّرات المناخية تحديداً… وهي الكلمة المفتاح نفسها المساعدة للعيش في الزمن الآتي من كوارث.