قرأت مؤخّرًا، في نشرة «القوس» التي تصدر مع جريدة «الأخبار» أيام السبت، مقالًا مُدَعّمًا بالصور حول تنمير لوحات سيارات القضاة في لبنان بـ«تصاميمها» المختلفة. ومع هذا، توافد إلى مخيلتي كمّ كبير من الشعارات والأرقام والرموز و«البلاكات» التي تُضاف، حفرًا أو لصقًا، إلى السيارات، فوق وتحت وبجانب وفي زاوية اللوحات بشكل خاص، لتقول: «أنا هنا»، أو لتسأل: «هل تعرف مع مَن تتكلّم؟». وعادت بي الذاكرة إلى حديث نقل إليّ قديمًا حول الحادثة التي تسبّبت باعتماد التنمير المشار إليه.قيل إنّ في ماضي القرن الفائت، حدث تلاسن بين قاضٍ وشرطي حول ركن سيارة القاضي في مكان ممنوع. وتطوّر الأمر ليتّخذ منحًى قضائيّا، إذ كاد أن يفتضح بالوصول إلى المحاكم، فتدخّل مَن تدخّل و؟... وعوضًا من أن يكون هناك تحقيق في مجريات ما حصل، وليعاقَب مَن توجبه القوانين، كان الحلّ، على طريقة لبنان «لا غالب ولا مغلوب»، بأن يضع جميع القضاة هذه اللافتة المعدنية الصغيرة اللاغية لسيادة القانون المُعوّل عليه العدل بين الناس، فوق النمرة.
وتمثّلًا بذلك، لا شكّ في أنّ الأمر قد إنسحب على كلّ ذي «شأن» و«نفوذ»، وشمل الأمر قطاعات بأكملها، من صحافة إلى بلديات إلى السلطات العسكرية والأمنية والزمنية، فإلى السلك القنصلي، ثمّ إلى إصدار أذونات لوضع العلم اللبناني على النمرة، وكأنّ سائر المواطنين غير معنيّين بعلم وطنهم، واللائحة لا ولن تتوقّف عند أيّ حدّ. وباستثناء إشارة على سيارة رئيس البعثة الدبلوماسية لدولة ما، وفقًا لعرف دولي ما زال معمولًا به، فإنّ كلّ إشارة من نوع الذي ورد آنفًا أو الذي قد سهونا عن ذكره، أو قد تستفيق جهة ما إلى تعميمه، هي بمثابة إذن يسمح بمخالفة القانون المستند إلى الدستور، سيما إلى البند «ج» من مقدّمته، وإلى المادتين 7 و12 منه. هذا كان وبات في لبنان توازن النفوذ، لبنان المتباهي بمنطق «بَيِّي أقوى من بَيَّك»، هذه «النمطية السلبية» حسب تسميتي.
يذكّرني هذا الأمر بحادثة من حوادث غابر الأيام وبما قد يربط بينهما.
في خمسينيات القرن الماضي، كان في خدمة قيادة سيارة مسؤول بقاعي، كثير التردّد، صعودًا ونزولًا، إلى منطقته، سائق من أقرانه البقاعيين، معتزٌ بِـ«مكانته»، مفتول العضلات، مفتون العقل، يسابق الريح في تسياره، يغيظه أنّه لا يتمكّن من تجاوز، ولا قيد أنملة، خياله الماثل على الأرض بجانب السيارة. وعلى سرعته الزائدة، لحق به شرطيّ درّاج، وما أدراك بالدرّاج، ممتطيًا صهوة «هارلي» (Harley)، رمز الرجولة تلك، معتزًّا بسلطته، ساعيًا إلى تطبيق «القانون»، ذاك المجهول، صاحب الوقار. تطبيق القانون حسب الوصف الوظيفي لمهامه، أي بحذافيره، بالصافرة، ببوق الإنذار، باليد الممدودة، بالتأشير إلى وجوب التوقّف على اليمين، بتجاوز السيارة بعد توقفها ومن ثمّ بالوقوف أمامها سدًّا منيعًا مانعًا متابعتها سيرها. ويُخْرِج «دفتر الضبط» ويباشر بتسطير العقوبة على «الجريمة». ويسدل السائق المهووس زجاج بابه ليقول لـ«الدخيل»: هل تعرف مَن معي في صدر السيارة؟ ليجيبه: ومَن يكون؟ فيقول: معي الوزير والنائب فلان ونحن في عجلة من أمرنا في مهمّة رسمية. ويأتيك الجواب الصاعق والمسؤول من الدرّاج الشاب المعتزّ: يا أيها السائق، هل تعرف أنّ لبنان لا يحظى بشخصية وطنية مثل فلان كلّ مئة أو مئتي سنة، فمن غير المسموح لك أن تخاطر بحياته بهذا القدر من التهوّر، ثمّ يعتذر للوزير ويهمّ إلى تمزيق الورقة التي بين يديه. أما الوزير فلان، الذي بقي هادئًا كلّ الوقت، مبتسمًا، مسؤولًا، يتابع هذا الحوار الحضاري المتوتّر، فيبادر الشرطي بالقول: أرجوك أن تكمل عمل واجبك حسب الأصول وتنظيم الضبط بحقّ السائق، وأوكّد لك أنّ قيمة الغرامة ستُحْسَم من راتبه. وهكذا كان.
هكذا كان يحمل المسؤول أولى لُبُنات الصلاح ليضعها في أساس بناء الدولة الناشئة تلك. هكذا.
ومع الزمن الذي لا يرحم، تبعثرت اللُبُنات أيدي سبأ، وذهب كلّ هذا الكلام المسؤول الوجداني الجميل مع رياح «الفوضى الخلّاقة». لنقول في الختام: بين التنمير والتَنَمّر، تواضعوا يا أهل السلطة... تواضعوا ليَسْلَمَ العدل!