ثمّة سباق واضح بين أطراف السلطة على إدارة مرحلة الفراغ. بعضهم يكتفي بالأمر انطلاقاً من زاوية محلية ضيّقة فقط، مثل الصراع بين التيار الوطني الحرّ وحركة أمل. حزب الله لديه أفق أكثر اتساعاً لمعركة الغاز مع الأميركيين والعدوّ الإسرائيلي. القوات اللبنانية لديها سقف سعودي في إطار تركيز ثقل المواجهة مع حزب الله في معركة انتخابات الرئاسة...الكل يتموضع تمهيداً لمرحلة إدارة الفراغ، إنما جميعهم يسيرون بلا أفق، وليسوا قادرين على الانتقال من «العجز» إلى «المبادرة» في مواجهة الانهيار وتداعياته. فاستخراج الغاز من بحر لبنان مشروع يندرج في إطار التنمية الاقتصادية على المدى المتوسط والطويل، لكنه ليس بأيّ شكل من الأشكال حلّاً سريعاً ينهي الأزمة أو يعالج تداعياتها، وبالتأكيد لا يفرض أيّ حلّ على الآخرين، ولا يدّعي أنه يقوم بذلك. بقية المشاريع سقفها إقصائي أو الغائي. إنما في هذا الإطار، كان لافتاً أن هناك نشاطاً ما ينطلق من المجلس النيابي محوره التحضير لإقرار قوانين يطلبها صندوق النقد الدولي كشرط مسبق للاتفاق النهائي معه. وبحسب المعلومات، كانت لجنة المال والموازنة تتهيّأ لإحالة مشروع موازنة 2022 إلى الهيئة العامة لإقراره سريعاً باعتباره خطوة أساسية تغطّي مسألة احتساب سعر الصرف في الموازنة، ما يسمح بإقرار زيادة الدولار الجمركي، إلا أنها لم تقم بذلك، لأن وزير المالية يوسف الخليل قرّر أن يعيد احتساب أرقام الموازنة انطلاقاً من تعديل سعر الدولار الجمركي، ومن العمليات الفعلية للخزينة بعد مرور نحو تسعة أشهر على بدء السنة. رغم ذلك، يتوقع أن تحال الموازنة إلى الهيئة العامة لإقرارها سريعاً. ويقول أحد النواب المنخرطين في هذا النشاط: «لدينا بضعة أسابيع لهذا الأمر، علماً بأن المجلس النيابي سيّد نفسه ويمكنه إقرار القوانين في مرحلة الفراغ الرئاسي حتى لو كان هناك فراغ حكومي».
وإلى جانب ذلك، برزت حركة لافتة للممثل المقيم لصندوق النقد الدولي في لبنان فريديريكو ليما، ولا سيما زيارته لرئيس لجنة المال والموازنة النائب ابراهيم كنعان، تلتها زيارة ثانية لوزير المالية. بحسب المعلومات، فإن ما قاله ليما في الزيارتين هو أن الصندوق لم يرفض، بالشكل الذي قدّمه نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، التعديلات التي أقرّها المجلس النيابي على قانون السرية المصرفية، بل يرى أن الجزء الأكبر مما هو مطلوب أقرّ. وقد أبلغه كنعان أن بعض التعديلات يمكن إدراجها في قانون إعادة هيكلة المصارف، ولا سيما لجهة منح لجنة الرقابة صلاحيات الملاحقة وكشف السرية المصرفية عن الحسابات. بمعنى أوضح، هذه الإشارة مفادها أن الصندوق يشجّع هذه المجموعة على الانخراط في مسار إقرار القوانين المطلوبة ولو في مرحلة الفراغ.
أيضاً، بدا الصندوق بذلك كأنه يشجّع أو يحفّز اشتعال المعارك الداخلية. فالمجموعة التي تعمل على مباشرة إقرار القوانين في المرحلة المقبلة مماثلة للمجموعة التي قادها رئيس مجلس النواب نبيه برّي يوم أسقطت خطّة الرئيس حسان دياب في المجلس النيابي. وهذه المجموعة تشير إلى أنه يمكن إقرار القوانين التي يطلبها صندوق النقد الدولي، ولا سيما قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وهي على استعداد للانخراط في مواجهة من أجل إمراره وإمرار قانون الكابيتال كونترول أيضاً.
مشكلة أصحاب هذا الخيار أنه كان قادراً على إقرار كل القوانين اللازمة في وقت سابق، سواء طلبها صندوق النقد الدولي أو لا، لأنها كانت تمثّل إحدى خطوات المعالجة للأزمة وإنهاء مرحلة السقوط الحرّ. إلا أن اختيارهم وقع على هذا التوقيت، بسبب الرغبة في إظهار عهد الرئيس ميشال عون عهداً تدميرياً. وبمعزل عن حقيقة الأمر، وعن مدى قدرتهم على إمرار هذه القوانين في هذه المرحلة، إلا أن قيام مجموعة كهذه تحديداً، في هذا التوقيت بالذات، بمحاولة من هذا النوع، يعدّ مدعاة للقلق. فهؤلاء لا يرون أن هناك ضرورة لإدارة السيولة المتبقية للبنان بالعملة الصعبة والتي يحملها مصرف لبنان في محفظته، ضمن أهداف واضحة ومحدّدة. وهذه السيولة تقلّصت إلى أقل من ثلث ما كانت عليه في نهاية 2019، أي يوم كان عليهم أن يبادروا إلى إقرار هذه القوانين على وجه السرعة.
فما الذي يريده هؤلاء، أو يسعون إليه، هو الخطّة نفسها التي انكبّ عليها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة منذ اليوم الأول للأزمة: شراء الوقت وتذويب الخسائر في المجتمع. هؤلاء ليس بإمكانهم الاعتراف بالأزمة بعد، أي أنهم غير قادرين على الإقرار بأن الودائع طارت، سواء نهبت بشكل كامل، أو أهدرت، وسواء موّلت ثروات الكبار أو كانت مكاسبها بيد شرائح ذات نفوذ. وهم اليوم ليسوا على استعداد لمواجهة المودعين بما حصل فعلياً، وليسوا مستعدين لأي نوع من أنواع المساءلة والمحاسبة، بل سيقومون بأمر ماكر، يقضي بترحيل الخسائر إلى السنوات المقبلة بعد إفقار المجتمع.