دخل لبنان في السنوات الأخيرة نفقاً من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والصحية ضربت أركانه، رغم أن اللبناني «الحربوق» يحاول دائماً التعايش مع الازمات، لعله يجتاز المرحلة ويصل الى بر الأمان. الا أن هذه المرحلة مختلفة عن سابقاتها. ففترة الحجر الطويلة التي فرضتها كورونا تلتها الأزمة الاقتصادية بعد تشرين 2019 التي أرخت بثقلها على العائلات اللبنانية وأدت الى تفكك أسري نتيجة عدم القدرة على تحمل المسؤولية، ما زاد من نسب الطلاق وما ينتج عنه من أزمات مجتمعية كالعنف والتسرب المدرسي وازدياد نسب المعطلين عن العمل والعديد من الآفات الاجتماعية كالتحرش وتعاطي المخدرات وغيرهما. ريما متزوجة منذ تسع سنوات و لها طفل عمره سبع سنوات. كان زوجها يعمل في احدى الشركات الكبرى، ويعتبر من الميسورين، فلم تضطر للعمل وعاشت حياة مرفهة وتابعت تعليمها العالي، الى أن حلّت الأزمة المالية وجائحة كورونا، ما اضطر الزوج للعمل من المنزل وأدى إلى تراجع مداخيله المالية وتغير حياة الأسرة بشكل كامل.
لم تتقبل ريما حياتها الجديدة، ورفضت التنازل عن اي من مكتسباتها خلال حياتها الزوجية، كالعاملة المنزلية، وعدم اضطرارها للعمل ومستوى مدرسة ابنها … الامر الذي وتر العلاقة بين الزوجين، وأفقدهما القدرة على التواصل الايجابي، ما زاد من عصبية الزوج في مقابل عدم تفهم الزوجة. دفع ذلك ريما الى اتخاذ قرار الانفصال عن زوجها باللجوء الى المحكمة الشرعية لطلب التفريق ظناً منها بأنها ستستعيد من خلال المحكمة ما خسرته من «حقوق» مالية تعتبرها واجباً على زوجها.
وهي لا تزال تنتظر حكم المحكمة منذ سنتين، خسرت خلالهما جزءاً كبيراً من مدخراتها التي أنفقتها على التقاضي وخسرت وجود ابنها معها بشكل دائم لتحضنه يومين في الاسبوع.

هل تنصفها المحكمة؟
يختلف الأمر بالنسبة لمريم التي تعمل وزوجها في القطاع العام. لم تكن الحياة من البداية سهلة لكنها لم تكن قاسية. رزقت مريم بولدين وتمكنت مع زوجها من تأمين حياة كريمة من دون اي مساندة من أحد، الى ان أرخت الأزمة المالية بثقلها على كل موظفي القطاع العام فلم يعد راتب الزوجين يكفي لدفع فاتورة الكهرباء. عملت في وظيفة اضافية لسد احتياجات منزلها الأساسية، وتمكنت نتيجة حسن تدبيرها من ابعاد اثر الازمة عن أولادها. في المقابل، لم يكتف زوجها برفض البحث عن عمل اضافي لمساعدتها، بل مارس عليها ضغوطات كثيرة بسبب «تقصيرها» في الأعمال المنزلية، ما دفعها الى التفكير جدياً في طلب الطلاق. إذ باتت تتحمل الجزء الأكبر من الأعباء المالية وبامكانها اعالة الاسرة وحدها. لكن خوفها من خسارة حضانة ولديها وتأثير الطلاق على وضعهما النفسي وهما في سن يحتاجان فيه لرعاية الام مباشرة، اضافة الى الأزمات العامة التي يعاني منها البلد والتي تزيد من الاعباء التي تعاني منها المرأة المطلقة، جعلها تتحمل العنف الاقتصادي والمعنوي واللفظي الممارس عليها ولعدم ثقتها بالقوانين الشرعية المعمول بها، وخوفها من نظرة المجتمع للمرأة المطلقة.
في مسائل الأحوال الشخصية، من الصعب جداً حسم الجدل بين طرفي النزاع لجهة المسؤولية كونها موزعة بنسب متفاوتة.
ما يجب التركيز عليه عندما يقرر أحد الطرفين او كلاهما اللجوء للقضاء هو: كيف نحمي مؤسسة العائلة من التفكك الاسري، وكيف نحمي الأولاد من تأثيرات المشاكل بين الزوجين، ومدى أخذ المحاكم الشرعية في الاعتبار لهذه القواعد خلال نظرها في الدعاوى المرفوعة امامها، خصوصاً في قضايا الحضانة وضرورة حماية الطفل المحضون ومصلحته الفضلى بغض النظر ان كان حق الحضانة للام او للاب.
فالمحاكم الشرعية يفترض انها مسؤولة عن تحصين العائلة في ظل عدم وجود قانون موحد للاحوال الشخصية وإعلاء مصلحة العائلة فوق كل اعتبار.
ترفع امام المحاكم الشرعية والروحية عدد من الدعاوى المتعلقة بالاحوال الشخصية للمتقاضين، ويلجأ كل طرف لتقديم الدعوى التي تعطيه مكتسبات شخصية في وجه الطرف الآخر متجاهلا في معظم الاحيان مصلحة العائلة وخصوصاً الاولاد.

الأسرة ركيزة المجتمع
يغيب عن بال كثيرين من المقدمين على الزواج ان الهدف منه يتعدى فكرة التزاوج والانجاب الى بناء أسرة مستقرة، متوازنة عمادها الاتفاق النسبي بين الزوجين على الموضوعات المتعلقة بحياتهما المشتركة، والقدرة على الصمود أمام المشكلات والمعوقات التي تواجههما، وقدرة الأسرة على التكيف والاستجابة للعوامل الخارجية المختلفة، وبذل الجهد وقت الشدة وعند الصعاب. ومن المؤكد أن الزواج يكون أكثر استقراًرا إذا بذل كل من الزوجين جهدا لتحمل الطرف الاخر، وتحمل المشكلات التي تعترض حياتهما. فأي محاولة من طرف لالغاء شخصية الطرف الاخر، وإهمال مبدأ التكامل والتكافل والمشاركة، واستبعاد مبدأ التنازل والاحتواء، والتباعد الفكري والثقافي والاجتماعي، وتصادم المواقف وتعارضها بين أفراد الأسرة الواحدة، يؤدي حتماً الى انعدام التوازن والتفكك الأسري.
لا شك في ان الاسرة كجزء من المجتمع لا يمكنها أن تعيش في معزل عن التأثيرات الخارجية، لذلك فإن الدعم والمساندة المقدمين من المجتمع المحيط، يساعدان بشكل كبير في استقرارها وتماسكها من جهة، ومن جهة أخرى قد يؤدي هذا المجتمع الى تدميرها في حال تخطي الحدود المسموح بها. لذلك فان الأسرة المستقرة اجتماعياً هي تلك القادرة على مواجهة التأثيرات الداخلية والخارجية المتعددة، والتي يشعر جميع أفرادها بالمسؤولية والتعاون.
التفكك الأسري هو نتيجة عدم القدرة على تحمل المسؤولية، ما زاد من نسب الطلاق وما ينتج عنه من أزمات مجتمعية كالعنف والتسرب المدرسي


من هنا من واجب كل فرد في المجتمع القيام بدوره التوعوي لا سيما تجاه الأجيال المقبلة على الزواج. من واجب التربويين والاخصائيين ورجال الدين التركيز على مقومات الأسرة المستقرة من خلال التوعية على حقوق وواجبات كل فرد من افرادها واهمية اختيار الشريك المناسب القادر على تحمل المسؤوليات وتخطي العقبات، والتشجيع على تنظيم اتفاقيات الزواج مع التأكيد على دورها في حماية حقوق الطرفين وعدم انتقاصها من قيمة وكرامة اي منهما.

دور القوانين في حماية الأسرة
في ظل الازمات التي تواجه الأسرة اللبنانية خاصة بعد فترة الحجر الصحي والازمة الاقتصادية، لا بد من التعاون بين الجهات التشريعية والقضائية مع المنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني لوضع تشريعات تنسجم مع النسيج الاجتماعي والتحديات المستجدة.
عندما نتحدث عن دور القوانين في بناء وحماية الأسرة، لا نتحدث بالضرورة عن تلك المتعلقة بشكل مباشر بها كقانون حماية النساء والاطفال من العنف الاسري على الرغم من أهميته، وان كانت لدينا بعض المآخذ حول مدى تطبيقه، انما نتحدث عن تشريع قوانين تلعب دوراً غير مباشر في استقرار الأسرة ودعمها وتؤمن لأفرادها الأمان الصحي والنفسي والاقتصادي.
لقد بيّنا في ما سبق ان ما يزعزع كيان الأسرة لا ينحصر باختلاف الثقافات والافكار وأساليب الحياة، فالعوامل الخارجية المتمثلة بالضغوطات الاقتصادية وعدم الشعور بالامان الصحي والاقتصادي المترافق مع عدم القدرة على التحمل، كفيلة بهدم أكثر الاسر صلابة.
فمن حق اي فرد العيش في استقرار نفسي دون خوف من الجوع او العوز. ومن واجب الدولة تشريع قوانين اجتماعية تضمن للافراد غير العاملين مدخولاً يؤمن الحاجات الاساسية للانسان كالاكل والطبابة.
ومن حق كل فرد الا يهدر ايامه بالبحث عن ضمانة للحفاظ على كرامته عند بلوغ سن الشيخوخة، ومن حق كل طفل التعلم في مدارس لائقة، وضمان عدم التسرب المدرسي بسبب انتفاء الامكانيات المادية.
ومن حق كل أسرة دولة تحترمها وترعاها وتؤمن لها مظلة قوانين تحفظ استقرارها الأمني والاجتماعي والاقتصادي.



ارتفاع نسب الطلاق
تشيرالأرقام الصادرة عن دائرة الاحصاءات في المديرية العامة للأحوال الشخصية الى انخفاض نسبة الزواج بين العامين 2018 و2021 مقابل ارتفاع معدل الطلاق وانخفاض ملحوظ في معدل الولادات. فبعد ان كان معدل الزواج 36287 عام 2018، انخفض الى 33661 في 2021، بينما ارتفعت نسبة الطلاق من 7646 الى 7751 وانخفضت الولادات من 47984 الى 34666 غراف الاحصاءات من دائرة الاحصاء).
هذه الأرقام لا تشمل دعاوى الطلاق التي ما زالت عالقة أمام المحاكم
هذه الأرقام هي انعكاس لارتدادات الأزمة المالية على مؤسسة العائلة، حيث لم يعد طرفاها قادرين على تحمل كافة أعبائها، وتتضاعف الأعباء بوجود معيل واحد للأسرة.