أغرقت غواصة "الحوت السادس" طرابلس كلّها في البحر. انتظار أربعة أشهر لانتشال ضحايا مركب المهاجرين الذي غرق قبالة المدينة في 23 نيسان الماضي، قابلته الغواصة بيومَي عمل فقط، خلال الأسبوع الذي رست فيه في بحر طرابلس. في اليوم الأول، قامت باستطلاع المركب وتصويره. وفي الثاني، أعلنت فشلها في انتشال الضحايا، وغادرت يوم الاثنين الماضي. أما "عرّاب" الغواصة النائب أشرف ريفي (موّل شقيقه جمال مهمتها)، فقد انتقل إلى المهمة الثانية بعد استكشاف المركب: استكشاف رأي المفتي الشرعي في إبقاء جثث الضحايا حيث هي وإعلان وفاتهم بعدما تفتّتت إحدى الجثث إثر لمسها من قبل الغواصين، وتناثرت رماداً."ليت هذه الغواصة لم تأت". صدحت بارعة صفوان الناجية من الغرق ووالدة الضحيتين سلام وغانية الجندي خلال مشاركتها في المؤتمر الصحافي الذي عقدته في مقر الرابطة الثقافية في طرابلس، لجنة "الدفاع عن الناجين والناجيات وأهالي الضحايا المدّعين في قضية قارب الموت". مؤتمر أمس الذي خصص للتعليق على مهمة الغواصة، أعقب مؤتمراً مماثلاً قبل أيام، كانت قد عقدته لجنة المحامين المكلفين من نقابة المحامين في الشمال لمتابعة القضية، ولا سيما المحامي محمد صبلوح.

قالوش وقبر ابنته
حول المحامية ديالا شحادة، تحلّق ستة من الناجين والأهالي الذين ادّعوا على 13 عنصراً في الجيش اللبناني ومن يظهره التحقيق بالتسبّب بإغراق المركب ومن عليه. مأساتهم تشعّبت بعد مغادرة الغواصة التي عقدوا عليها آمالهم بانتشال أبنائهم. لكنها فتحت الباب أمام ادّعاءات ومتهمين "ارتكبوا جرماً جديداً في عمق البحر بعدما ارتكبوه على سطحه". لم يكن غريباً أن يستطرد الأهالي في حديثهم. لكلّ منهم مأساته المتفرّعة عن الفاجعة الكبرى. ناطورة البناية لمياء سليم التي حظيت باحتضان جثة ابنتها خديجة النمر (21 عاماً) ولا تزال بانتظار انتشال جثة حفيدها، أمير ابن خديجة (3 سنوات). وبجانبها الناجون بارعة صفوان ونجلاها مصطفى وإبراهيم الجندي وصهرهما ناجي الفوال الذين ينتظرون انتشال جثتَي شقيقتيهما سلام وغانية. أما أسعد قالوش، فقد كان الأكثر تفاؤلاً بين زملائه بالغواصة. فتح قبراً لابنته سمر، وانتظر استعادة جثتها. أصبح ذلك أقصى أمنيات الأب بعد خسارة ابنته الصيدلانية التي بلغ بها اليأس أن ترمي نفسها في مركب الموت من دون أن تخبر أهلها.

اختفاء هاشم
القهر الذي يطحن أصحابه يتردّى أمام مأساة جهاد متلج، الذي يتمنى لو كان ابنه هاشم (22 عاماً) في قعر البحر. لكنه لا يعرف أين هو؟ هاشم ونحو سبعة أشخاص آخرين، يتردّد بأنهم أوقفوا من قبل الجيش خلال عمليات انتشال الضحايا بتهمة أنهم "أقدموا على الهجرة بطريقة غير شرعية". لا يعيش أبو هاشم صراعاً مع الملح الذي يهدّد بفتك جثث حوالي 33 ضحية. لكنه يصارع أشباح الحرب الأهلية بمخطوفيها ومفقوديها. يتلقّى بشكل شبه يومي، أنباء من هنا وهناك تخبره بأن ابنه في هذا المركز الأمني أو ذاك. يسأل عنه من دون نتيجة، وتصله تهديدات وتحذيرات بالكفّ عن البحث عنه.
تقدّم جهاد متلج بدعوى إخفاء قسري ضدّ الجيش لمعرفة مصير ابنه المفقود

متلج تقدّم بدعوى "إخفاء قسري" ضدّ الجيش لمعرفة مصير ابنه الذي أنهى دراسة هندسة الديكور وأقنع والده، العامل اليومي، بالهجرة ليحسّن ظروف معيشته ومعيشة أسرته. كاد أبو هاشم أن يفجع بابنته آلاء وزوجها من آل دندشي في المركب نفسه. وبرغم انتشالهما أحياء، إلا أن ابنته العروس "فقدت جنينها بسبب الضرب الذي تعرّضت له من الجيش خلال إنقاذها".

عودة الغواصة؟
جمعت المصيبة الأهالي الذين تعلّقوا بهواتفهم يحفظون عليها مقاطع مصوّرة للركاب قبل الإبحار ولملاحقة المركب من قبل بحرية الجيش. قبل أن يكتمل "الألبوم" بصور و"فيديوات" مهمة الغواصة. كلّ منهم يشاهد الصورة أكثر من مرة. يتبادلون مجموعاتهم. يقومون بدور المحقق والمحلل الجنائي في محاولة لتفسير ما الذي يحصل معهم منذ 23 نيسان الماضي. لكن الهمّ الأكبر الذي يتقاسمونه عدم عودة الغواصة سريعاً لاستكمال المهمة قبل الشتاء. حينها، بحسب الناجي مصطفى الجندي، قد تفعل الأنواء فعلها في المركب. فتكسره وتفتح غرفته الداخلية التي تحفظ حوالي عشرين ضحية من النساء والأطفال، رجّح الغواص سكوت ووترز بأن "تكون الجثث المحبوسة داخل العنبر الزجاجي في حالة أفضل بسبب تفاوت كمية التفاعلات البكتيرية".

المحاسبة أولاً وأخيراً
الأمل بعودة الغواصة يتضاءل، فيما يكبر الأمل بمعاقبة المرتكبين. بحسب المحامية شحادة، بتّت النيابة العامة التمييزية أمس دعوى لمياء سليم. وقبل نحو شهرين، بلغت أول دعوى تقدّمت بها بارعة صفوان وأسرتها طريقها إلى مديرية الاستخبارات، فأخذت إفاداتهم للمرة الأولى بعد شهرين من الواقعة. الملفات القضائية التي ينظر بها كل من شحادة وصبلوح وتسعة محامين متطوعين آخرين، باتت مثقلة بعد الغواصة. إذ تقدّم المحامون الأحد عشر بوكالتهم عن صفوان وأسرتها، بمذكرة عاجلة إلى النيابة العامة العسكرية تطلب فيه "الاستماع إلى كابتن الغواصة بحضور المدّعين والناجين ووكلائهم وتسليم الصور والبيانات التي صوّرها للمركب من دون مونتاج. وتسطير كتاب إلى الصليب الأحمر الدولي والمنظمات الدولية ذات الخبرة في عمليات انتشال الضحايا لإبداء رأيها ومساعدتها التقنية. واتخاذ كل ما يلزم من أجل التعجيل بانتشال المركب الغارق والكشف عليه جنائياً من قبل خبراء دوليين محايدين".