طوى مازن عبّود برحيله صفحة بهيّة من صفحات النضال اليساري المقاوم. النضال الذي استند إلى وعي المطابقة الإبداعية بين النظرية والممارسة الثوريّتين وقام عليهما.فالوعي هذا، المفقود اليوم، هو الذي «صنع» مازن وأمثاله من المناضلات والمناضلين. وهو الذي استنهضهم لخوض غمار التحدي النضالي الذي ثبت، وبالملموس الثوري، أن لا معيار أرقى له من معيار التصدي للاحتلال ومقارعة أدواته وتحطيم أصنامه. أي على الضدّ مما نراه اليوم في ممارسات «يساريين» كثر أُخذوا على حين وعي زائف، أو انتهازية رخيصة، بالأكاذيب والأوهام. وآخرها، تلك التي راجت مع أكذوبة «التغيير» و«التغييريين» السوروسية، وقبلها تلفيقة «الربيع العربي» الأوبامية. فالاحتلال الإسرائيلي، المرعي غربياً وأطلسياً، هو الأصل في المشاكل العربية. ولأنه كذلك، فإنه بما يمثل ومن يمثل، أبرز المسؤولين عن التردي العربي المقيم، وعن سيطرة التجزئة وفشل «الدولة» وغياب التنمية وتمكّن الاستبداد وطغيان السلالية العائلية والحزبية... بل إنه المسؤول عن معظم إن لم يكن كل ما تعانيه المنطقة من فوات تاريخي وما يتصل به من اختلالات بنيوية وتشوّهات سياسية تكاد لا تستثني حقلاً من حقول الاجتماع الوطني والقومي. وعليه، فإن المدخل النضالي الأرقى الذي لا مدخل غيره لأي حزب أو حركة هو في ملاقاة حاجات الأمة وتطلعاتها إلى التحرير المقرون بالتحرّر، والسبيل الوحيد إلى ذلك هو المقاومة التي كان مازن في طليعة مفتتحيها «خريف» عام ١٩٨٢.
مازن عبود هو وجه الشيوعيين العلني. إذ ليس هناك من وجه سرّي (ولو خفيّ) للمقاوم. وبضاعة «الوجه السري» هي منتج سوروسي لا سوق له إلا عند البلهاء أو هواة النوع. وهؤلاء، في الواقع كما الخيال، لا يتجاوزون النطاق الضيق لحفنة من المأزومين وطنياً والفاسدين أخلاقياً و«التائهين» سياسياً.
مازن عبود هو وجه الشيوعيين الوحيد والأوحد. هو وجه النضال الذي يفتقده الشيوعيون ويتوقون إليه. لكن ثمّة عقبات، جلّها ذاتي، تحول بينهم وبين استعادتهم لوجههم الأصيل هذا.
مازن عبود هو وجه الشيوعيين واسمهم وعنوانهم ولون عيونهم وسماتهم الفارقة. وهو صورة عن تاريخهم الذي لا ينقطع ولو أن محنتهم مع مختطفي حزبهم وسارقي نضالاتهم والمتاجرين بها طالت أكثر من اللازم.
وجه مازن عبود هو وجه جورج نصر الله ولولا عبود وإياد قصير وقاسم بدران ويسار مروة وحكمت الأمين وفرج الله فوعاني ووفاء نور الدين ونبيل جلول... هو وجه ويد كل هؤلاء وقبضاتهم وعقلهم وروحهم ووجدانهم العميق. وأنّى لكل هذا أن يضيع مهما ووري في مغارة المارقين ومكاتب اللصوص.
وجه مازن عبود هو وجه كل مقاوم لبناني وفلسطيني وسوري ومصري وجزائري وتونسي وأردني ويمني...
وجه مازن هو وجه لبنان المستقبل الذي تصنعه بنادق المقاومة التي تحرس «الحدود»، وفي الوقت نفسه تتطلّع إلى عمق أرضنا العربية السليبة التي تنتظر قدوم محرريها الوشيك وتناديهم.
لذلك، فإن الوفاء الحقيقي لمازن ولقضيته يكون أول ما يكون بالعودة إلى الموقع الطبيعي والبديهي إلى جانب المقاومة التي حررت في ٢٠٠٠ وانتصرت في ٢٠٠٦، وتتابع، وبجدارة غير مسبوقة لبنانياً وعربياً وربما دولياً، التصدي للمهمة نفسها التي تصدى لها مازن «خريف» عام ١٩٨٢.
والصدق مع مازن يكون بالإقلال من الشعارات الرنانة والخطب الطنانة والابتعاد عن العناوين «النضالية» التي تخفي النفَس السوروسي العفن والكريه، والتي لا قيمة لها إن لم تقترن بتوجه سياسي جذري لا مكان فيه للتراقص بين المواقف ولا الاندراج السري أو الموارب في أكاذيب النظام العربي التي يبدو أنها تروق لبعض يساريي الغفلة وتستهوي أفئدتهم الصدئة.
وتكريم مازن الحقيقي والصادق يكون بالكفّ الفوري عن المبالغات التي راجت وستروج أكثر عن دوره القيادي المزعوم وغيرها من الإضافات التي لا تقدّم ولا تؤخّر. إذ يكفي مازن أنه كان مقاوماً، ويكفيه أيضاً فخر وشرف المشاركة في واحدة من العمليات الأولى. أما باقي الصفات والتسميات ذات الإيقاع الزجلي الفارغ ففيها انتقاص ما من أهمية دور هذا المقاوم وباقي رفاقه المقاومين.
مازن عبود... وداعاً!