مع تزايد احتراق غابات العالم في السنوات الأخيرة وهذا العام، وتسجيل أرقام قياسية جديدة كل عام، بدأ العديد من الخبراء حول العالم بطرح الكثير من الأسئلة حول مصير البيئة بشكل عام، ورئة هذا الكوكب بشكل خاص. بالرغم من ذلك، ليست الحرائق هي المهدّد الأول للغابات حول العالم. بحسب التقارير الدولية ذات الصلة، فإن تجارة الأخشاب غير الشرعية وقطع الغابات من أجل الزراعة والتربية الحيوانية المكثفة، أو من أجل التنقيب عن المعادن والأتربة الثمينة والوقود… تُعتبر أسباباً أساسية مهددة لديمومة هذه الرئة التي يتنفس من خلالها كوكبنا أيضاً. لذلك بات ملحّاً إعادة تقييم كل الاتفاقيات الدولية ذات الصلة لحمايتها، بالإضافة إلى مراجعة النموذج الاقتصادي والحضاري الذي نعرفه أيضاً… نحو إيجاد إدارة مستدامة لهذا المورد الحيوي والهام في حياة البشرية، خصوصاً أن هذا المورد يُعتبر متجدّداً وليس ناضباً كمثل الكثير من المعادن والوقود الأحفوري.
لكي يتحقق كلّ ذلك، يفترض تغيير نظرة الناس إلى الخشب والأشجار أولاً. فالخشب مصدر متجدّد وقابل للتدوير، وهو بخلاف الكثير من الأدوات المنافسة كالبلاستيك، صديق للبيئة، مطواع للصناعة اليدوية… ومتعدّد الاستخدامات. كما أنه واحدةٌ من أقدم المواد الأولية التي عرفتها البشرية، أي منذ استخدام العصي إلى قوس النشاب! والآن، بعد الإغراءات التي قدّمتها البدائل عنه، وبعد كلّ الكوارث الناجمة عنها، تستطيع الأخشاب والقش أن تعود لتحل مكان البلاستيك في الكثير من الاستخدامات، بدءاً من قشة الشرب وحتى علب تغليف الأغذية كجانب من التحرّك العالمي نحو القضاء على التلوّث البلاستيكي. كما يوفّر الخشب ومنتجاته بدائل حقيقية هي الألطف بالنسبة إلى الكوكب من الفولاذ والألومنيوم والإسمنت وألياف النسيج، ذات البصمة الكبيرة على البيئة والمناخ.
في بداية شهر أيار من هذا العام، دعا المؤتمر العالمي الخامس عشر للغابات إلى الاستثمار في الأخشاب المنتجة بطريقة قانونية ومستدامة بهدف تحويل قطاع البناء نحو استخدام مواد جديدة ومُبتكرة وتوفير طاقة متجدّدة، ناهيك عن الانتقال إلى اقتصاد حيوي دائري والمضي باتجاه الحياد المناخي. ليس المطلوب عالمياً ومحلياً إذاً وقف قطع الغابات لحمايتها، بل تنظيم القطع وقوننته، لأن الأخشاب ستبقى حتى إشعار آخر، الأكثر رفقاً بالمناخ والبيئة والاقتصاد من كلّ البدائل التي أنتجتها الثورة الصناعية من طاقة أحفورية ومعادن ومنتجاتها الكثيفة الكربون.
على المستوى العالمي، سيكون نحو ثلاثة مليارات شخص بحاجة إلى السكن بحلول عام 2030، ما يعني الحاجة إلى زهاء 300 مليون مسكن جديد. وبما أن قطاع المباني والمنشآت مسؤول عن إطلاق ما يقارب 40% من انبعاثات غازات الدفيئة على المستوى العالمي، فإن التحوّل إلى مواد البناء القائمة على الخشب بدلاً من الإسمنت والحديد والفولاذ، من شأنه أن يخفّف من البصمة البيئية والكربونية. بالإضافة إلى الفوائد الاقتصادية من التحوّل إلى الخشب، إذ تشير التقديرات إلى أن تغطية الاحتياجات المتوقعة للمساكن في أفريقيا بحلول عام 2050 عن طريق إنتاج الخشب وتصنيعه الأولي ستساهم بما يقارب 83 مليار دولار أميركي في اقتصاد المنطقة، وخلق ما يقارب 25 مليون فرصة عمل.
على المستوى العالمي أيضاً، يُعتبر القطاع الزراعي (والحيواني) المسؤول الأول عن عمليات إزالة الغابات (تذهب بعض التقديرات إلى تحميله نسبة 90%)، فهذا يعني أنه علينا مراجعة الأنظمة الغذائية التي تكثر من استهلاك اللحوم على المستوييْن العالمي والمحلي ومعالجة كيفية تمويل الزراعة وتنويعها وإزالة الحوافز التي تؤدي إلى إزالة الغابات ووقف الإتجار غير المشروع بالأخشاب، وتوجيه صناديق المناخ التمويلية لدعم أهل الغابات وحمايتهم أكثر من أي شيء آخر.
وفي لبنان، وبعض دول المنطقة، يمكن إضافة مشكلة التفحيم، كمهدّد أساسي للغابات والتجارة غير المشروعة بالفحم النباتي، خصوصاً أن استخدامه في "الأراكيل" غير ضروري حياتياً، ويمكن ضبطه أيضاً مع العودة إلى النظام الغذائي القديم الذي لم يكن يلجأ إلى اللحوم إلا في المناسبات.
أما عن محاولات إعادة التشجير العالمية والمحلية لإعادة التوازن إلى الحياة البرية وإعادة إنتاج الغابات، فهي لم ولن تجدي نفعاً بكونها أقلّ سرعة بكثير من حالة الدمار الشامل التي يسبّبها العمران في جميع أشكاله، من شق طرقات إلى البناء إلى الزراعة والتجارة غير المشروعة بالحطب والفحم والأخشاب. كما أن حفظ الغابات لن يحصل بقرارات دولية أو حكومية، ولا باهتمام سكان المدن حول العالم الذين يشكلون أكثر من 80% من البشرية، بل بتعزيز وضع ما يسمى "السكان الأصليين" فيها، الذين يعيشون منها ويعرفون أكثر من غيرهم كيفية المحافظة عليها، لولا إغراءات التجار وأطماع الشركات الكبرى في الاستثمار حتى الاستنزاف والإحراق.