هي المرّة الأولى منذ 3 سنوات التي يدعو فيها مجلس القضاء الأعلى إلى جمعية عموميّة للقضاة. في السابق، كان رئيس المجلس القاضي سهيل عبّود يدير الأذن الطرشاء لزملائه الذين كانوا «يحجّون» إلى مكتبه للمطالبة بعقد اجتماعٍ طارئ يناقش أوضاعهم في ظل الأزمة الاقتصادية وتآكل رواتبهم. 3 سنوات، كان فيها عبّود يماطل ويدعو القضاة إلى الصبر. ويوم قرّر هؤلاء إعلان الإضراب المفتوح بقي «الريّس» يتفرّج، حتى أُكره على الدعوة إلى جمعية عمومية، وفق ما يقول بعض القضاة الذين يشيرون إلى أن الـ400 قاض الذين التزموا الاعتكاف حشروا المجلس في «بيت اليك» وأرغموه على الدعوة إلى اجتماعٍ بعد أن كانوا يتمنّون بأن يبادر المجلس بنفسه إلى إعلان الإضراب. بالنسبة لهم، الدعوة لم تكن بريئة، بل الغرض منها «نصب الأفخاخ» بحسب بعض القضاة. هؤلاء يعتقدون أن مجلس القضاء الأعلى يريد تنفيذ أجندة السلطة السياسية وتنفيس اعتكافهم رويداً رويداً.وحده مشهد الجمعية العمومية كان كفيلاً بإثارة غضب القضاة أكثر: 400 قاضٍ يتوجّهون إلى القاعة الكبرى لمحكمة التمييز على الدرج، ويجتمعون فيها على «ضو الشمس» ويمسحون عرقهم من جراء انقطاع التيار الكهربائي عن قصر عدل بيروت. مع ذلك، بذل المجتمعون أقصى جهدهم للإنصات إلى كلمة عبّود، حتى لا يفوتهم أي موقف، إلا أنهم فوجئوا بأنه لم يقدّم حلاً، بل «كان يشكي معنا». هم الذين تكبّدوا عناء المشوار إلى «العدلية»، لا يريدون أن يتلو الرجل عليهم وقائع مظلوميتهم وأن يؤكد بأن المجلس «يتفهّم معاناتهم». كبتوا استياءهم قبل أن يفهموا منه أنه يريد تنفيس الاعتكاف.
لم يقلها بالفم الملآن، لكن هذا ما فهموه حينما أكّد أنّ عليهم فكّ الإضراب بعد أن تحوّل وزارة المالية مبالغ مالية إلى صندوق التعاضد الخاص بهم لتغطية المساعدات الاستشفائية والمدرسية (علماً بأنّ هذه الأموال لن تغطي نفقات المدارس والمستشفيات كاملةً)، وعندما تمنّى عليهم تسيير الملفات الملحّة، وهو ما اعتبره القضاة «حيلة لضرب الإضراب».
لكن أكثر ما أثار حفيظتهم هو إعلان عبّود رفضه تدبير قبض رواتبهم على سعر صرف 8 آلاف ليرة «لأنه أغضب الكثيرين» على حد قوله. وهذا ما أزعج كثيرين من القضاة الذين انتقدوا علناً أداء مجلس القضاء الأعلى وتقاعسه عن الوقوف خلف قضاياهم، ووصل البعض إلى اتهامه بأنه يريد تلبية مطالب القوى السياسيّة. وإلا، «كيف لمجلس القضاء أن يصدر بياناً يؤكد فيه دعمه للتدبير بقوله إنه كان الحل المؤقت للرواتب الذي لا يتناسب بتاتاً مع ما هو مستحق لكل قاض بانتظار الحلول العامة والنهائية التي تطاول كل السلطات والجهات والمرافق»، متسائلين: «ألم يأخذ المعنيون موافقة المجلس على آلية القبض هذه؟ أم أن الموضوع هو كباش سياسي؟».
دعا عبود القضاة إلى فك الإضراب بعد تقديم الدولة مساعدات اجتماعية إلى صندوق التعاضد الخاص بهم


في المقابل، يعتقد بعض القضاة بأن موقف عبود هو الرسالة التي أراد توجيهها في دعوته الجمعية العمومية حتى لا يقوم زملاؤه برفع سقف مطالبهم، والتمهيد بأن الدولة لن تعود إلى هذا التدبير، ما يعني الموافقة على ما هو أقل من 8 آلاف لفك الإضراب. وبذلك، ثارت ثائرة القضاة في الاجتماع فذكّروا بأن الدولة حسّنت رواتب موظفي القطاع العام وصارت تصل إلى 8 آلاف، فيما معدّل رواتبهم هي 4 ملايين ليرة (تتراوح رواتب الموظفين بحسب رتبتهم بين 3 و8 ملايين ليرة) ومن دون حصولهم على منافع عينية كقسائم محروقات، وعدم قدرة الصندوق الخاص بهم على تغطية نفقات الخدمات الاستشفائية والطبيّة والتعليميّة. علماً أن السلطة القضائية هي من بين أكبر 3 موردات إلى صندوق الخزينة برغم عددهم القليل. وهذا ما أشار إليه أحد القضاة في كلمته، مشدداً على أنّ ميزانية القضاء لا تتعدى 0.03 % من ميزانية الدولة رغم الواردات التي يتم تحقيقها، فيما تتعمّد الدولة إجحافهم، وهو ما يبدو واضحاً من خلال تأخر صرف رواتبهم والمساعدات الاجتماعية التي لم تُصرف لهم بعد هذا الشهر، بالإضافة إلى عدم تلقيهم بدلات عن مشاركتهم في الانتخابات النيابية الماضية،.
كما عرض القضاة لتقاعس مجلس القضاء الأعلى عن المطالبة بقانون استقلالية القضاء، ليرد عبود بأنه سيعمل على هذه القضية التي ستكون من ضمن أولوياته في الأيام المقبلة. وأكد أكثر من قاضٍ أن مطلبهم ليس تحسين الرواتب فقط، وإنما إقرار قانون استقلالية القضاء وتحسين أوضاع قصور العدل التي يزداد وضعها سوءاً بسبب انقطاع المياه والكهرباء وخلوها من بعض المواد الأساسية، ووقف الحملات ضدهم من الإعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي. وللمفارقة أن عبود الذي يتحدث عن قانون استقلالية القضاء كانَ أول من اعترض عليه وأكد وجود ملاحظات كثيرة ولا تزال المماطلة في تعديله مستمرة.
وفي سياق متصل، علمت «الأخبار» أن وزير العدل سيجول الخميس على الرؤساء الثلاثة لاستكمال المشاورات بشأن مطالب القضاة.