يفرغ موجز الأنباء الرديئة من الراديو على مشارف بورة السيارات الترابية في حديقة «نحيي الأرض» البيئية. على بعد ثوانٍ معدودة من الطريق العام في حي القناية شرق صيدا، حياة أخرى في واحة منسيّة تكسر رتابة الباطون والهواء الملبّد بالتلوّث وأصوات الصخب في المدينة.تحت أشجار الجاكارند العتيقة والخرّوب المعمّر، يغوي خزّانا الليموناضة والبرتقال الزجاجيان الباردان، عطش الهاربين من رطوبة بحر الجنوب ولهيب آب ذاك الأحد. وهناك في جنبات الباحة الفسيحة، تتوزّع المقاعد الخشبية الملتصقة بطاولات المائدة، يعتليها الزّوار ويملأونها بالأطعمة المحليّة الشهيّة. أمّا في الزاوية الغربية، فـ«سوق القناية» يعرض فيها الباعة الخضر البيئية والمنتجات الغذائية الصحيّة والأشغال اليدوية، ويلتقي حولها أهل الحيّ وزوّار من صيدا وخارجها.
خلف الفسحة، تتوزّع الطريق على ممرّات ضيقة تحكمها رائحة القصعين والزعتر. أمّا شمالاً، فتنمو في المشتل نباتات عطرية وخضر محليّة. خلفها، تشكّل أشجار التوت والزنزلخت والجاكارند وشجر الجنّة والحمضيّات والأكي دنيا، غابة، تحتضن أعمالاً فنيّة ومسرحيّة للأطفال وعروضاً للدمى وورشات تعليم حرفيّة.

عودة إلى الجذور
قبل عامين اثنين، كانت البورة أرضاً مهملة تعلوها أكوام الركام والحجارة ونفايات الحيّ المكدّسة. اليوم، حديقة «نحيي الأرض»، ليست مجرّد نزهة طبيعية في حاضرة غارقةٍ بين جبال النفايات والمياه الآسنة ومشاريع الفرز والضمّ وأحزمة البؤس. في مساكب الزرع هنا، ولدت حكاية عودةٍ إلى الجذور والبذور والأصول الطبيعية. الزراعة البيئية هي المحرّك في المكان، الذي نما عدد عُماله ليصيروا أكثر من خمسين فرداً، إناثاً وذكوراً من أهواء وأعمار ومهن مختلفة، عاملون وغير عاملين، لبنانيون وفلسطينيون، يتعاونون بانتظام في زراعة عشرات المساكب والعناية بها، والاستفادة من محصولها.
يقول أحد أبرز المشاركين في المشروع، إن سكان لبنان عامة ومدينة صيدا على سبيل المثال، «يعانون منذ أربعة عقود من الانسلاخ عن الأرض، ومن غياب الفهم لأهمية الحيّز العام في حياة المجتمع. من هنا انطلقت الفكرة»، يضيف الشاب، «منذ مدة يفكر مجموعة من الناشطين البيئيين والمهندسين والمخططين المدنيين لإحياء فكرة الحيّز العام، فكان المشروع عملاً حقيقياً لإحياء الأرض».
لم تجد «نحيي الأرض» مكاناً لها على أرض عامّة. اضطر أصحاب الفكرة إلى استئجار البورة. فالخطاب السائد، بين القناعة «الرسمية» بأن «الناس يخرّبون الأماكن العامة أو المشاعات»، وبين هيمنة لوبيات المقاولين على الإدارات الرسمية والمحليّة، لا تمنح الأمكنة العامة لأفراد لا يملكون مالاً أو سلطةً، ولا مساحة للمبادرات الاجتماعية غير الربحية.
كيف بدأ النشاط التطبيقي؟ يوضح المشارك أن «الانطلاق بدأ بنشر إعلان للمهتمين بالعمل في زراعة تشاركية، حوالي 150 متراً مربعاً للشخص الواحد. تقدّم أكثر من 70 شخصاً، لكن تم اختيار ثمانية أشخاص جديّين. بدأنا هواة. ومن ثم تطوّر المشروع إلى 15 ثم إلى 35، والآن يعمل هنا حوالي 50 شخصاً عملاً تطوعيّاً». يحرص المشارك على التمييز بين نمط العمل والتفكير في المشروع وبين عمل الجمعيات الدارجة هذه الأيام، «لا وظائف مدفوعة هنا ولا تمويل كبير، الجهد الأكبر هو للناس والعمل تطوّعي. في البداية حصلنا على تمويل بسيط نسبياً، ثم بدأنا ببيع بعض المنتوجات لتغطية كلفة إيجار قطعة الأرض».

غذاؤنا كفاف يومنا
بجهد ومثابرةٍ ومعرفة، تحوّلت أكثر من خمسة دونمات من الأرض إلى مصدرٍ للإنتاج والتنوّع الإيكولوجي، تصمد وتنتج مع كلّ ظروف التلوّث والكارثة المناخية. تعلّم الأفراد، عبر الدورات التدريبية من خبراء ومختصين، طرق الزراعة البيئية وإنتاج الكومبوست، بعيداً من أنماط الزراعة «التجارية»، المستندة إلى استخدام المبيدات الحشرية والفطرية الصناعية والأسمدة الكيماوية والبذور التي تغزو الشركات الكبرى الأسواق بها.
يحوّل المزارعون المدرّبون هنا الأرض إلى مساكب تتراكم فيها المواد العضوية وتنبت منها صنوف متنوّعة متشابكة متوائمة من الخضر والأزهار والعطور والفطريات، ويتمّ تحويل كلّ بقايا النبات والأعشاب في الأرض إلى كومبوست يضاف إلى المساكب، وكذلك الأسمدة المستخرجة من مستخلصات نباتية كالقرّيص، ويجمعون بذورهم بأنفسهم.
إحدى السّيدات، وهي موظّفة في مصرف، تشرح وهي تقطف الخيار وأوراق الحبق، كيف تغيّرت حياتها واكتشفت حب الزراعة في داخلها، «صرت أشعر بأنّ الأكل له طعم»، تقول. أمّا على مقربة منها، تجمع طالبة جامعيّة ظروف اللوبياء الطرية، وفي غلّتها اليوم ثمرتا كوسى وبعض حبات البندورة الناضجة وقصفات من البروكولي. بالنسبة إليها، فإن «المساحة التعاونية والعلاقة بين الأفراد والمجموعة والمكان، تمنح الدعم المعنوي واكتشاف قوة التعلّق بالأرض»، وطبعاً «أنظم غذائي على ما تنتجه المسكبة، وهناك دائماً محصول متنوّع يسمح لي ولأفراد عائلتي بتغطية جزء مهم من غذائنا، غذاء خال من السموم».