ثلاث شركاتٍ أساسية تحتكر الجزء الأكبر من سوق حليب الأطفال في لبنان. في المرتبة الأولى، تأتي شركة «مجموعة فتّال» بمنتج «نيرسي»، بأنواعه المختلفة. وتحلّ شركة «أف دي سي» (شركة الأغذية والأدوية) بمجموعة «أبتاميل» في المرتبة الثانية، فيما تحلّ شركة «أبو عضل» بمنتج «نوفالاك» ثالثة، ومن بعدها تأتي البقية المكوَّنة من 15 شركة مستوردة لحليب الأطفال.ثماني عشرة شركة تستورد حليب الأطفال، فيما حليب الأطفال الرضّع من عمر يوم إلى سنة مقطوع، بما أنه لا يزال مدعوماً بنسبة النصف (أما حليب الأطفال من عمر سنة إلى ثلاث سنوات فقد خرج من الدعم). هذه ليست مزحة. هذا واقع مفروض منذ ستة أشهرٍ تقريباً عندما فُقد الحليب من السوق… حتى السوداء منها، بحيث لم يعد التجوال على الصيدليات يسعف في الحصول على علبة حليب.

18 شركة تستورد حليب الأطفال رغم ذلك هو غير متوفّر (أرشيف ــ مروان طحطح)

في الأسباب المعلنة لهذا الانقطاع، يأتي مصرف لبنان أولاً، حيث تتقاطع كل المصادر- من وزارة الصحة إلى بعض الشركات والمستودعات- حول المسؤولية الحتمية لمصرف لبنان في قطع حليب الأطفال. يأخذ هؤلاء على الأخير تلكؤه في دراسة ملفاتهم، ما ينعكس تأخيراً في تمويل عملية الاستيراد. «تمادى المصرف في التأخير حتى وصل الأمر إلى عدم إعطاء الموافقات، ما أدّى إلى توقف الاستيراد»، يقول أحد أصحاب المستودعات. أضف إلى ذلك تراكم الكثير من الفواتير في ذمّة المصرف «كثيرون لم يقبضوا فواتير منذ العام الماضي».

حلقة الدعم
في الأسباب الأخرى، تأتي حلقة الدعم. الحلقة نفسها التي كانت سبباً ولا تزال في حبس حبّة الدواء عن المرضى، تحبس اليوم هي الأخرى حليب الأطفال. صحيح أن الأخير لا يزال يحظى بنصف دعم، مع إخراج نصفه الآخر من الدعم في تشرين الثاني الماضي، إلا أن ذلك لم يسهّل الطريق، لأن الملف بشقَّيه مرتبط بموافقة المصرف. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن النصف المدعوم يسير وفق الآلية السابقة التي تنصّ على احتساب 85% من سعره على أساس سعر صرف الدولار الأميركي 1500 ليرة لبنانية يؤمّنها مصرف لبنان و15% يفترض بصاحب الملف أن يؤمّنها من مصرفه التجاري. وفي هذه الحالة، قد «يقبل» المصرف التجاري بصرف تلك القيمة على أساس سعر منصة صيرفة أو شيك مصرفي أو «كاش دولار». أما الـ50 المتبقّية فتخضع لمؤشر الأسعار الذي تصدره وزارة الصحة العامة، مطلع كلّ أسبوع، والذي احتُسب وفق آخر قرار بـ29.600 ليرة.
يضاف إلى عقدة الدعم، جشع بعض الشركات أيضاً، التي تبتزّ مصرف لبنان بمنع الحليب عن الرضّع. واللافت أن هذه الشركات التي ترهن حياة الرضّع اليوم هي نفسها أيضاً التي ترهن حياة المرضى من خلال حبس الدواء عنهم أو تقليل التوزيع بانتظار تسديد ديونها للشركات من أموال الدعم.

ضآلة الكميات
هذه الآلية المربكة منعت الحليب عن مستحقّيه. وإن كان وزير الصحة العامة فراس أبيض قد «زفّ» قبل أيامٍ انفراجة في السوق، على اعتبار أن بعض الشركات قد بدأت بالتوزيع، إلا أن هذه الانفراجة لم تتناسب مع الواقع، إذ يشكو بعض الصيادلة من ضآلة الكميات التي يوزّعها هؤلاء. ويشير أحد الصيادلة «إلى أنه من أصل 10 أصناف طلبها من عدة شركات، وصل صنفان فقط من شركة واحدة وليس بالكمية المطلوبة، فقد أعطوني علبتين من 10 علب طلبتها»، فيما بلّغت بعض الشركات الصيادلة «عن الكميات المتوقّعة منها والتي تختلف بحسب حجم كلّ صيدلية». وقد لا تحصل بعض الصيدليات على أيّ نوع من الحليب خصوصاً تلك التي تقع في الأطراف، وهو ما يؤكده أحد الصيادلة في منطقة البقاع الذي لم يحصل على أي علبة منذ مطلع العام الجاري، مشيراً إلى أنه «حتى في أيام العزّ، كان يصل إلينا الفتات».
هل يكون الحلّ برفع ما تبقّى من دعم عن أنواع الحليب العلاجية؟


إلى ذلك، عمدت الكثير من العائلات للتفتيش عن بدائل، فكانت الوجهة الأولى للكثيرين منهم الخارج، إما عبر الشراء من البلدان المجاورة أو في أحسن الأحوال الطلب من المغتربين (الأقارب) إحضار كميات من الحليب معهم عند عودتهم. مع ذلك، لم تعوّض هذه الوجهة النقص، إذ إن عائلات كثيرة لم تكن تملك ثمن الاستيراد من الخارج بـ«الفريش دولار» أو ما يعادله، خصوصاً مع «استغلال البعض للأزمة وبيع حليب الأطفال بأسعارٍ مضاعفة»، يقول أحد الصيادلة. وقد دفع هذا الأمر العائلات المعنية إلى استبدال الحليب المخصّص للرضع بأنواعٍ أخرى موجودة في المحالّ التجارية، قد لا تفي بالغرض، إلا «أنها تبقى أفضل من لا شيء».
ثمة فئة كانت الأكثر خسارة من كلّ هؤلاء، وهي فئة الرضّع الذين يتناولون أنواعاً مخصّصة من الحليب تناسب حالاتهم المرضية. فقد وجدت عائلات هؤلاء نفسها في مأزق مع صعوبة تأمين هذه «العلاجات» الباهظة الثمن والتي تحمل خاصية معيّنة تجعل من الصعب وجودها في الكثير من الصيدليات. في هذا السياق، يجري نقاش اليوم لتحرير هذه الأنواع من الدعم، «إلا أن القرار لم يؤخذ بعد»، تختم مصادر وزارة الصحة العامة.