كيف يمكن ان تتطور الأوضاع في السجون؟ الأزمات الاقتصادية والمعيشية والسياسية والصحية تتفاقم، وتتفاقم معها أزمة السجون حيث تحشر الدولة آلاف الأشخاص ممن تعجز إدارة السجون عن تأمين الشروط الأساسية للحفاظ على الحد الأدنى من كرامتهم الإنسانية. السجين المدان بارتكاب جرائم، كما الموقوف قيد المحاكمة، في عهدة الدولة المسؤولة عن سلامة كل منهما وصحته. فهي مكلفة قضائياً بإصلاح سلوك المحكوم من خلال احتجازه في سجون يفترض ان تساهم في خفض معدلات الجريمة، فيما الموقوف يُفترض عدّه بريئاً حتى تثبت ادانته امام المحكمة عملاً بمبدأ قرينة البراءة. آلاف الموقوفين والمحكومين الذين تحشرهم الدولة اليوم في السجون يواجهون ظروفاً صعبة (راجع الاخبار 22 تموز 2022). القلق والخوف والغضب يدفع ببعضهم الى الصراخ والدعوة الى العصيان، وقد يدفع بعضاً آخر الى الانتحار، بينما قد يلجأ آخرون الى محاولة الهرب. اما حراس السجون فوضع معظمهم لا يقل سوءاً عن السجناء، بعدما بات راتب الحارس لا يكفي لتلبية ابسط حاجاته وحاجات عائلته. ونعرض في ما يأتي خمسة احتمالات مقلقة ... بعد دراسة أوضاع السجون واستطلاع مواقف بعض السجناء وذويهم والقوى الأمنية
تحتجز الدولة في سجونها حالياً نحو ثمانية آلاف شخص. 21 في المئة من هؤلاء محكومون يقضون عقوبتهم السجنية، فيما لم تصدر الاحكام القضائية بحق 79 في المئة من السجناء، بعضهم محكومون في قضايا جنائية وموقوفون في قضايا أخرى ما زالت قيد المتابعة القضائية ولم يصدر الحكم النهائي فيها بعد.
لا تتناسب أوضاع السجون في لبنان مع القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء (قواعد نلسون مانديلا). «لا أكل ولا شرب ولا مي ولا دوا، وما في حدا يساعدنا» يقول أحد الموقوفين في السجن المركزي في رومية حيث تحشر الدولة نحو 3500 سجين. «ما بقى فينا نتحمّل. نحنا متروكين لحالنا. حتى أهالينا ما عم نشوفهم من شهور. تعبنا حكي. شو الحل؟»، يقول أحد السجناء عبر الهاتف. أحد المحكومين في سجن القبة (طرابلس) أكّد بدوره أن الأوضاع لم تعد تُحتمل، مشيراً إلى أنه ناقش مع بعض زملائه في إعلان العصيان والتمرد.
«كب الحرام» ورشوة الضباط والعساكر أساليب غير قانونية للحصول على امتيازات في السجن


يشكو معظم السجناء اكتظاظ السجون وفقدان عدد من الأدوية ونقص المواد الغذائية وانقطاع المياه غالباً وارتفاع درجات الحرارة داخل الزنازين، إضافة إلى عدم قدرتهم على الاتصال بذويهم أو رؤية عائلاتهم بسبب ارتفاع كلفة المواصلات. وهي المشكلات ذاتها منذ بداية عام 2022 لكن تفاقمها يرفع مستوى الضغوط في السجون وقد يؤدي الى حوادث خطيرة وقاتلة.

احتمالات مقلقة
ثمانية آلاف سجين في لبنان امام خمسة احتمالات في ظل أزمة السجون:

1. التمرد والعصيان وأعمال الشغب
انتشرت فيديوات عبر مواقع التواصل الاجتماعي الأسبوع الفائت ظهر في بعضها سجناء غاضبين من مبنى المحكومين في رومية يتسلّقون باباً حديدياً ويحتجون على الإهمال الطبي وفقدان الأدوية وانخفاض كمية الطعام. وفي فيديو آخر ظهر سجناء في الساحة العامة يطالبون بتحسين ظروف السجن وبقانون عفو عام.
صحيح ان الاكتظاظ والعجز عن تأمين الخدمات الأساسية كالرعاية الطبية والاستشفائية لا يتناسب مع القانون، غير ان مرسوم تنظيم السجون ينص على معاقبة كل سجين يتمرّد من خلال منعه من الزيارة أو المخابرة الهاتفية ووضعه في السجن الانفرادي مثلاً (مادة 103 من مرسوم رقم 14310/49).
في كل حالة من حالات تجمع السجناء في باحات السجون والممرات للتعبير عن غضبهم، تدخلت القوى الأمنية ومعها فرقة مكافحة الشغب لوقف الاحتجاجات بالقوة، ووقعت إصابات طفيفة بين السجناء عاد بعدها الهدوء وأُعيد السجناء الى القواويش. وقد شكا بعضهم من تعرضهم لضرب مبرح، علماً ان قانون تنظيم قوى الامن يمنع استخدام العنف الذي لا تقتضيه الضرورة (مادة 225 من قانون رقم 17).
تكرار الاحتجاجات قد يتطور الى عصيان عنيف وأعمال شغب وصدامات تؤدي إلى إصابات بين السجناء والحراس. وفي ظل النقص الحاد في الموارد والخدمات الطبية والاستشفائية قد تزيد معاناة الجرحى وتتدهور صحتهم ويصعب علاجهم.
أحد ضباط قوى الامن العاملين في السجون أكد ان من واجباته التدخل لمكافحة أعمال الشغب أو العصيان التي يقوم بها بعض السجناء ولا يمكنه التساهل معها لأنها قد تتحول من صرخة احتجاج محدودة الى عصيان واسع يخرج عن السيطرة. وشدد على ان «لا مفر من المواجهة» التي تزيد الحساسية والتوتر بين السجناء والحرس. ورغم اعترافه بسوء الأوضاع، اعتبر أن «الانتفاضة ما بتحلّ شي ولا بتحسن شي، لا بل على العكس، الأمور بتروح من سيئ الى أسوأ».

(هيثم الموسوي)


2. محاولات فرار
فجر الاحد الفائت (7-8-2022)، تمكّن 31 موقوفاً من الفرار من النظارة التي تقع تحت جسر قصر عدل بيروت. وقد أوقفت قوى الامن عدداً منهم والعمل جار على تحديد أماكن الآخرين.
صحيح ان كل سجين يفكر بالهرب، لكن محاولات الفرار عموماً قليلة ونجاحها نادر. ويعلم السجناء ان محاولات الفرار تعرضهم لخطر الموت وأن احتمالات انكشافها عالية.
وقد وقعت عملية هروب مشابهة من نظارة مخفر قصر عدل بعبدا عام 2020، وتمكنت قوى الامن من اعادة توقيف 15 من أصل 69 سجيناً فاراً، فيما سلم 4 سجناء فارين انفسهم وقتل خمسة في حادث سير.
يساهم الوضع الاقتصادي المتدهور في تشجيع محاولات الفرار من عدة نواح: فعمليات الفرار تعتمد غالباً على تعامل احد الحراس أو الموظفين مع المخططين مقابل مبلغ من المال. وبما ان رواتب العسكريين باتت غير كافية لتغطية حاجاتهم الأساسية قد يكون بعضهم قابلاً للرشوة أو للابتزاز من قبل سجناء ومن يساندهم من خارج السجن.
من جهة أخرى، قد يعتقد بعض السجناء بأن القوى الامنية لم تعد تقوم بمهامها بالجدية المعهودة بسبب النقص الحاد في الموارد وانهيار قيمة رواتب الضباط والعناصر.
يذكر ان القانون يفرض عقوبات تأديبية وجزائية على كل سجين يحاول الفرار. ويمكن أن تصل مدة العقوبة السجنية الى سبع سنوات (المادة 425 من قانون العقوبات اللبناني). أما مرسوم تنظيم السجون فقد أتاح لعناصر قوى الامن اطلاق النار على السجناء الفارين بعد إنذارهم ثلاث مرات (المادة 99 من مرسوم رقم 14310/49).
نشير أخيراً الى ان السجين الذي يفكر بالفرار قد يتردد بسبب علمه بأن العيش في ظل ملاحقة مستمرة من قبل الضابطة العدلية والجيش وسائر مؤسسات الدولة والقلق المستمر والصعوبات المعيشية اليومية قد يكون أسوأ من معاناة انتظار انتهاء مدة العقوبة السجنية. لكن التردد قد لا يطول اذا استمرت ازمة السجون بالتفاقم.

3. الادمان و«حبوب الاعصاب»
نسبة السجناء الذين كانوا يتعاطون المخدرات قبل دخولهم السجن تزيد على 60 في المئة. ولا شك في ان معظم السجناء يسعون عموماً للحصول على أي نوع من أنواع المؤثرات العقلية بما في ذلك الكحول المصنعة في القواويش وبعض ادوية الاعصاب والمسكّنات، وصولا الى المواد الممنوعة التي تهرّب من خارج السجن. أما في زمن الازمات والضغط النفسي والخوف والقلق الشديد، فقد تصبح المؤثرات العقلية حاجة ملحة للعديد من السجناء للهروب من الواقع المرير والافق المسدود امامهم.
علماً ان بعض الحبوب المخدرة قد تزيد التوتر والخوف وربما تؤدي الى نوبات نفسية وحالات اكتئاب مرضية. ولا شك ان لاستخدام المخدرات آثاراً سلبية على المدى الطويل، منها الاصابة بأمراض القلب والجهاز الهضمي وتراجع القدرة على التركيز والحركة. التناول العشوائي لأدوية الأعصاب غالباً ما يسبب الإدمان ويمكن أن يؤدي إلى غيبوبة. كما أن الاستخدام غير المنتظم لأدوية الأعصاب يؤثر سلباً على معدل ضربات القلب ما يتسبب بموت فجائي.
ويشير سجناء إلى أنواع من المخدرات يتم تناولها في السجون مع أسعارها التقريبية (العملة التي يتم التعامل داخل القاووش هي التلكارت وسعر التلكارت الواحد 10,000 ليرة)، ومنها المورفين (مليونا ليرة للحبة)، باز أو كراك كوكايين crack cocaine (ثلاثة إلى أربعة ملايين ليرة للغرام الواحد)، ترامال tramal: (50 ألفاً للحبة)، بنزكسول benzhexol (50 ألفاً للحبة).

4. رشوة و«كب حرام»
«كلاب السجن» أو «كبّابين الحرام» هي العبارات التي يستخدمها السجناء لوصف زملاء لهم يعملون مخبرين لصالح القوى الامنية. غالباً ما ينقل هؤلاء اخباراً غير صحيحة للإيقاع بسجين أو لتجريده من مهمات الخادم أو الشاويش (السجين الذي تختاره إدارة السجن لأعمال النظافة أو الصيانة أو المطبخ أو الغسل أو المشغل أو حارساً على الأبواب الداخلية للسجن وللحفاظ على النظافة وإعداد الطعام مقابل بعض الامتيازات). «كب الحرام» ورشوة الضباط والعساكر وغيرها أساليب يعتمدها هؤلاء من أجل الحصول على بعض الامتيازات. وقد يختار بعض السجناء طريق الفساد و«كب الحرام» لتحسين ظروفهم.
يذكر ان مرسوم تنظيم السجون يمنع السجناء من إعطاء موظفي السجن أي شيء لدى دخولهم اليهم أو خروجهم منه (المادة 100). ولا تقتصر العقوبة على العسكري أو الضابط الذي قبل الرشوة، وإنما أيضاً على من أعطى الرشوة.

5. الانتحار وايذاء النفس
انتشرت الأسبوع الفائت مشاهد عبر مواقع التواصل الاجتماعي تظهر سجناء يهددون بالانتحار، ومنهم من أقدم على تشطيب يديه وبطنه. ويوضح المتخصص في الاضطرابات النفسية الدكتور ايلي غزال أن أسباب الإقدام على إيذاء النفس داخل السجون متعددة، منها عدم تحمل المعاناة النفسية وتفضيل الألم الجسدي سعياً للتغطية عليها، أو كنداء استغاثة من ظروف قاهرة يمرّ بها في السجن، أو انهيار نفسي جراء حرمانه من الحصول على حبوب أو مخدرات يدمن عليها (راجع «القوس» رقم 2 «التشطيب: سجون هدر الدم»).
ويتطلب الانتحار وايذاء النفس مساعدة طبيب أو أخصائي علوم نفسية لمساعدة السجين. فقتل النفس أو إيذاؤها في ظل ظروف صعبة يعاني منها كل أفراد المجتمع، ومع أزمة اقتصادية جعلت الدولة عاجزة عن تأمين الأساسيات لمن هم داخل السجن وخارجه، قد لا يحققان أياً من مطالب السجناء بتحسين ظروفهم.