لعقود مضت، كان مصرف لبنان بعيداً عن الرقابة والمحاسبة، وتلازم ذلك، في السنوات الأخيرة، مع ترويج مفهوم الامتثال للقوانين الخارجية بذريعة شفافية العمليات المصرفية. إنما اليوم، مصرف لبنان يرفض الامتثال للقوانين المحلية، لذا يرفض إخضاع مصرف لبنان لقانون الشراء العام الذي أقرّ أخيراً. إذ إن الحاكم رياض سلامة يريد أن تبقى الصفقات في المصرف المركزي بعيداً عن أعين الرقابة.في 5 تموز الماضي، وجّه سلامة كتاباً إلى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي يعترض فيه على شمول مصرف لبنان بقانون الشراء العام الذي يخضع كل الصفقات التي يجريها المصرف المركزي له، باستثناء تلك المتعلقة بإصدار النقد وطباعته. ويتذرّع سلامة في كتابه، بأن قانون الشراء العام الذي يحدد قواعد وأصول إجراء عمليات الشراء العام ينتقص من استقلالية «المركزي»، ويصرّ على أنه يطبّق مبادئ الشفافية والنزاهة في إجراءات المشتريات وفي عمليات الشراء التي يقوم بها.
إذاً، ممّ يخاف سلامة؟ لا إجابة في كتابه سوى بأن الادعاء بالشفافية عبارة عن قول لا فعل. لكنه كان ينتظر اللحظة المناسبة لإعلان ذلك، رغم أن مناقشات قانون الشراء العام أخذت وقتاً طويلاً في مجلس النواب، وكان مصرف لبنان على علم بها. فمن بعد مضيّ سنوات على الدرس، صدر القانون وبدأ تطبيقه في 29 تموز الماضي، محدداً آليّة مركزيّة موحّدة للإنفاق العام. فقد باتت كل الصفقات العمومية والمشتريات في كل مؤسسات الدولة اللبنانية تخضع لإشراف هيئة متخصّصة ولرقابتها، سمّيت «هيئة الشراء العام ولجنة اعتراضات»، علماً بأنه في السابق، كانت إدارة المناقصات تشرف فقط على 5% من الصفقات العمومية المعقودة لمصلحة إدارات الدولة ووزاراتها.
أهمية القانون أنه وسّع مروحة الصفقات التي تخضع لرقابة هيئة الشراء العام لتشمل جميع عمليات الشراء التي تقوم بها الدولة ومؤسساتها ومجالسها وصناديقها وإداراتها والهيئات الإدارية المستقلة والبلديات واتحاداتها والمحاكم التي تتمتع بموازنات خاصة، والأسلاك الأمنية والعسكرية وما يتبع لها ومن وحدات، ومشتريات المرافق العامة المشغّلة من قبل شركات خاصة لمصلحة الدولة، وصولاً إلى عمليات الشراء التي يجريها مصرف لبنان باستثناء طباعة النقد وإصداره.
أما الهدف من هذه المركزية في الصفقات العمومية، فيكمن أولاً في تحديث قانون المحاسبة العمومية، وثانياً في إفساح المجال أمام المزيد من الشفافية والمنافسة في الصفقات وإتاحة المجال أمام الدولة للحصول على أسعار أكثر تنافسية. لكن مصرف لبنان يرفض هذا المفهوم الواضح لترجمة قواعد الشفافية والنزاهة والمنافسة في الصفقات العمومية، إذ إنه ادعى في الكتاب الذي وجّهه إلى ميقاتي بأن تطبيق قانون الشراء العام يتعارض مع أحكام المادة 13 من قانون النقد والتسليف لجهة استقلالية مصرف لبنان بوصفه إحدى مؤسسات القطاع العام، لافتاً إلى أن التطبيق «قد يعيق سرعة تنفيذ عمليات الشراء الواجبة تلبية لحاجات المصرف المركزي، وقد يؤثّر على خصوصيات مصرف لبنان واستقلاليته، ولا سيما لجهة تعيين موظفي وحدة الشراء بموجب مرسوم، وإخضاع وحدة المشتريات لدى المركزي للهيئات الرقابية، فضلاً عن تشكيل لجان تلزيم يكون أحد الأعضاء فيها من خارج موظفي المصرف...». ويحاول الالتفاف على التطبيق من خلال الادعاء بأنه «في طور تعزيز وتطوير تلك العمليات بهدف مواءمة آليات وإجراءات الشراء مع روحية قانون الشراء العام».
وعلمت «الأخبار» أن ميقاتي حوّل أوّل من أمس كتاب سلامة إلى هيئة الشراء العام لإبداء الرأي، وهي بدورها ردّت جواباً طالبة من مصرف لبنان إبلاغها بكل المستندات التي تتعلّق بعمليات الشراء التي يقوم بها اعتباراً من 29 تموز، مستندة في ذلك إلى الفقرة 6 من المادة 3 من قانون الشراء العام التي تنصّ على تطبيق أحكام القانون على عمليات شراء مصرف لبنان، باستثناء إصدار النقد وطباعة العملة وتحويلها.
ويؤكّد رئيس الهيئة جان العلية أنّه «بمعزل عن أي كتاب أو طلب إبداء رأي، فإن الموقف المبدئي هو تطبيق قانون الشراء العام على كل من يخضعون لأحكامه دون استثناء»، وفي ما خص مصرف لبنان تحديداً «لا تعارض مع استقلاليته لأن المشرّع احتاط للأمر في الفقرة 5 من المادة 114 عندما أخضع عمليات الشراء العادية التي يقوم بها المصرف من خارج إطار وظيفته الأساسية المتمثّلة بإصدار النقد وطباعة العملة. وكذا لا تعارض مع أي قوانين أخرى يتم التذرّع فيها كقانون النقد والتسليف، التي ألغيت ضمناً بصراحة المادة 114 من قانون الشراء العام. القانون واضح ويلغي كل القوانين السابقة المعاكسة له، وعندما نكون أمام نص واضح لا مكان للاجتهاد».
في حال إصرار سلامة على عدم الخضوع للقانون، والمضيّ في إجراء عمليات شراء بشكل مستقل، فإن ما ستقوم به الهيئة وفق القانون، هو وضع تقارير دورية عند الاقتضاء، وتقرير سنوي عن سير عملها يُبلّغ إلى مجلس النواب والوزراء والجهات الرقابية كالتفتيش المركزي، وذلك بحكم الفقرة 25 من المادة 76. بعد ذلك تنتهي مهمة هيئة الشراء العام، ليصبح الأمر بيد مجلسَي النواب والوزراء الذين يعارضون محاسبة سلامة ومساءلته منذ سنوات.