تُريد «إسرائيل» طرح الحقوق السيادية اللبنانية، الغازية والنفطية، في البازار التفاوضي كجزء من «اتفاقية السماح» التي تربط الولايات المتحدة مستقبل إنتاج الغاز في لبنان بها، في إطار «الحل النهائي» للحدود البحرية الجنوبية. في المقابل، يتعامل «البلد الصغير» بقلة مسؤولية حيال ما يملك. تجاهل عمداً قدرته على رسم خط تقني أكثر قوة. فوق ذلك، ادّعى المسؤولون فيه، أن الدولة لم تجرِ مسوحات زلزالية دقيقة للمنطقة الواقعة شمال الخط 29. فيما بعد، تطوّر الادعاء باتجاه أن لا معلومات دقيقة نمتلكها عن مدى احتمال وجود مكامن غازية غير «حقل قانا». استخدمت هذه الفرضية في إباحة إطلاق مسار التنازل دفعة واحدة، وحدث أن تبيّن الآن، أن الدولة، «غير جاهلة» في ما يوجد تحت البحر، وأن ثمة 6 مكامن إضافية محتملة على الأقل تنتشر على طول الخط! يتجرّأ من هم «فوق» على إخفاء الدراسات والخرائط، ليكرّسوا في المقابل، التخلي بدافع الرغبة في استلحاق تأمين استفادة من اكتشافات الغاز الواعدة

انقر على الصورة لتكبيرها

كثيرة هي الأخطاء اللبنانية في ملف الترسيم، مذْ أن «بلَّ» المسؤولون أيديهم فيه. بعد التخلي عن أكثر من 1400 كلم مربّع، يُرشح أن يزيد التراجع إلى ما دون حاجز 860 كلم مربّعاً. سلسلة الأخطاء العصية على التوقف، ألحقت بلبنان الضعف، في السياسة والتفاوض وسياسة التفاوض، فضلاً عن تسهيل نقل النزاع إليه. أكثر النماذج سذاجة، الغرق في معادلة «قانا مقابل كاريش»، والقبول ببدعة «الخط المتعرّج وتقاسم الخطوط»، غير المألوفة في تقنيات الترسيم الدولية. السعي الحثيث إلى توقيع اتفاق حدودي بحري، من دون مراجعة أهل الاختصاص، يُرتب خسارة مكامن أخرى. فإذا كان الهدف الحصول على كامل «حقل قانا» المحتمل بهدف منع التطبيع مع العدو، ماذا عن حقل «قانا الشرقي» وحقل «قانا الغربي»، وهما تسميتان لحقلين جديدين، تمكّنت «الأخبار» من الحصول على خريطة رسمية لبنانية لهما صادرة عن «هيئة إدارة قطاع البترول»، عن طريق مصدر دبلوماسي، بالإضافة إلى مجموعة حقول محتملة تعبر الخط 23 المشكوك في منشئه، وتمتد إلى منطقة الـ1430 كلم مربّعاً الواقعة شمال الخط 29.
في ما له صلة بآخر عرض قدّمه لبنان من خلال الوسيط الأميركي عاموس هوكشتين، يظهر أن ما قيل حول «ردّ موحّد»، كان عبارة عن طرح شفهي نقله «الوسيط» وتضمّن ما بات يُعرف بـ«23+». واشترط كي يتحول إلى عرض مكتوب أن ينال موافقة إسرائيلية مبدئية. في المقابل، يتردّد أن تل أبيب ترفض اقتراحاً مماثلاً. وإن قبلته، فهي تشترط على لبنان تقديم بدل على شكل «نسبة متساوية» في البلوك 8.
ما هو راسخ حتى الآن لدى أهل الاختصاص، عدم ارتباط الرغبة الإسرائيلية في البلوك 8 بمسألة تأمين مسار مرور خط أنابيب شرق المتوسط. مركزية الاهتمام الإسرائيلي، تطرح القضية على النقاش في احتمال وجود ما يثير اهتمامه. جغرافياً يمثل البلوك 8 امتداداً لسلسلة بلوكات محتلّة في خليج عكّا (4, 6, 7, 8)، تقع بمحاذاة الخط 23، طرحها العدو على دورة التلزيمات الجديدة. التفسير التقني الحالي، ربطاً بالخرائط والاهتمام الإسرائيلي، يفيد بأنّ البلوك 8 يعوم على بحرٍ من الغاز.
الفرضية أعلاه، تأتي ربطاً بخريطة «هيئة البترول» الرسمية، وعطفاً على نتائج المسوحات الزلزالية الثنائية، والثلاثية الأبعاد التي أجراها لبنان على مراحل متقاربة ومتباعدة، ابتداءً من عام 2000 ولغاية 2018، والتي ترفض الدولة إتاحتها أمام الجمهور بذريعة «السرية».
يعود المسح الثنائي الأبعاد الأول للبلوك 8 إلى عام 2000. تولّته حينذاك شركة «سبكتروم» وكان من ضمن المسح الزلزالي الكلي للمنطقة البحرية اللبنانية الاقتصادية الخالصة. عام 2002 توسّعت المسوحات بالاستناد إلى نتائج مسح «سبكتروم» الأول. وفي عام 2008، أجرت شركة PGS النروِجية، بموجب استدعاء من قبل الدولة، مسحاً زلزالياً ثنائي الأبعاد بشكل موسّع لكامل المساحة اللبنانية البحرية حتى بلوغها النقطة 23، وفّرت نتائج مهمة. استُتبع المسار لاحقاً، بمسح موازٍ أجريَ خلال عام 2011، وكان الأخير في عداد المسوحات الثنائية الأبعاد. اعتُبرت حينها المسوحات «مفيدة»، واعتمد قسم منها في مجال التوسّع نحو البدء بفهم المنطقة الاقتصادية الخالصة وما تحتويه، بالاعتماد على تقنية المسح الزلزالي «الثلاثي الأبعاد».
تكثر الحقول في البلوك 8 على حيث يصبّ العدو اهتمامه


خلال عام 2011، أجرت الشركة النروِجية، مسحاً ثلاثياً اعتُبر الأكثر دقة، شمل البلوك 9 وأجزاء من البلوك 10. بعدها بعام تقريباً، عادت «سبكتروم» وأجرت مسحاً مكمّلاً، شمل أجزاء صغيرة ومحدودة انحصرت في القسم العلوي من البلوك 8، كجزء من مسح شامل للبلوك 5 على وجه التحديد، ما عُدّ مثيراً للانتباه، مقارنة بالمسوحات «الموسّعة» إجمالاً والتي شملت بلوكات مثل 9، نتج عنها اكتشاف «حقل قانا» على سبيل المثال لا الحصر. وفي عام 2013 شكّل البلوك 10 باكورة المسوحات الثلاثية لتختم PGS أعمالها في لبنان.
نتائج المسوحات، بقيت بعيدة عن الإعلام، ووُضعت في خانة «أسرار الدولة». سُلمت النتائج إلى وزارة الطاقة ومنها إلى «هيئة إدارة قطاع البترول» التي اعتمدت النهج ذاته في الحظر على النتائج. رغم دخول لبنان مراحل التفاوض غير المباشرة والحديث عن الحقوق والخطوط والحقول، وتسيّد نظرية «حقل قانا» المجحفة، بقيت «الهيئة» تلتزم الصمت، حتى حصول «الأخبار» على الخريطة التي تُترجم عملياً، كامل نتائج المسوحات التي أجريت.
بحسب الرأي التقني، تقدم الخرائط تصوّراً شاملاً حول طبيعة الحقول المحتملة. تقع مجموعة الحقول على طول الخط 23، وفي بعض الحالات تتجاوزه، فيما تكثر الحقول في البلوك 8 على نحوٍ دقيق للغاية، حيث يصبّ العدو اهتمامه.
يمكن أن يكون أبرز هذه الحقول، ما يُصطلح على تسميته «قانا الغربي» (حقل B) وهو حقل شبيه بحقل «قانا» الأصلي الذي يقع ضمن البلوك 9، بحيث يمتد أسفل خط «هوف» ويتجاوز الخط 23. بهذا المعنى، تصبح الغاية الإسرائيلية واضحة من حيث الإصرار، على «تعريج» أي خط مقترح عند البلوك 8.
وضعية البلوك 8 تنسحب على البلوك 10 الذي خضع لمسوحات زلزالية ثلاثية الأبعاد لم يُكشف عن نتائجها لحينه. تظهر الخريطة التي حصلت عليها «الأخبار» وجود مكمن غازي محتمل، يمكن أن يُطلق عليه «قانا الشرقي». إلى جانب هذا الحقل المهم، تبين الخرائط وجود «أشقاء» لحقل قانا «الرئيسي»، تتفرّع عنه وتنتشر في البلوك 9 وفي محاذاته لناحية الشرق (باللون الأحمر)، لا تقلّ أهمية عنه، بحيث تمتد أسفل الخط 23. وفيما لو انحصر المطلب اللبناني بـ«قانا الرئيسي» فقط، يكون المفاوض اللبناني قد أتاح للعدو الإسرائيلي حقلاً مجانياً إضافياً.
عملياً، ما يمكن أن يحمي هذه الحقول، إصرار المفاوض اللبناني على الخط 29 (أو ما يعادله) نسبياً. من جهة أخرى، من الخطأ التقدير بعدم جدوى هذه الحقول طالما أنها تبقى رهن الاستكشافات المستقبلية، كما أن من الخطأ رهن الموقف اللبناني بحقل قانا «الرئيسي» فقط. يبقى الإصرار على عدم توسيع المطالب اللبنانية وسياسة «إخفاء الخرائط»، موضع بحث وتدقيق.
إلى جانب كل ذلك، تُطرح نظريات خطيرة على مستقبل الترسيم. فالعدو الذي يُنقل عنه أنه «قد يقبل» بأن يمنح «حقل قانا الرئيسي» بموجب اتفاق على نيله مقابلاً في البلوك 8، يفتح الباب لاستحداث نظرية «تبادل الحقول» غير المسبوقة في تقنيات الترسيم. لذلك يُطرح على النقاش احتمال أن يعيد العدو مستقبلاً إنتاج الحل «المفترض» في قانا الرئيسي، وتعميمه على سائر الحقول الأخرى قيد الاكتشاف بالنسبة إلى لبنان.