لم يكن صدفة اختيار حزب الله توجيه رسالته عبر كاميرا الإعلام الحربي الى واشنطن وتل أبيب، بل قرار يفرضه الطابع المهني لمضمون الرسالة: تظهير القدرة على استهداف كل ما له علاقة باستخراج الغاز من البحر المتوسط؛ و«رسالة إرادة» لتذكير العدوّ تجنّباً لأوهام وتقديرات أميركية وإسرائيلية خاطئة، تغذّيها مفاهيم مغلوطة تتردّد على ألسنة حلفائهم في لبنان والمنطقة، قد تورّط المنطقة في مواجهة عسكرية واسعة. وما أضفى على رسالة القدرة خصوصية استثنائية تزامنها مع وصول المبعوث الأميركي عاموس هوكشتين، الذي سيكون عليه أن يأخذ موقف المقاومة في الحسبان، وأن يتجنّب لغة الاستهزاء والعروض القائمة على قاعدة «القليل خير من الحرمان».أمعن حزب الله في التأكيد على إرادته وتصميمه على رفع الحصار الأميركي الذي يمنع الشركات العالمية من التنقيب والاستخراج في المياه الاقتصادية اللبنانية. وأظهرت ردود الفعل والتداعيات التي توالت سياسياً وأمنياً (تعزيز قدرات الحماية والاعتراض جواً وبحراً) أن معادلة «الاستخراج مقابل الاستخراج» التي فرضتها المقاومة، مهما تكن النتائج والتداعيات، كان لها وقع المفاجأة والصدمة داخلياً وإقليمياً ودولياً. أولاً، لكونها غير مسبوقة؛ وثانياً لكونها لا تتناسب مع تقديرات العدو بأن الانهيار المالي والحصار الاقتصادي الأميركي يقيّدان حزب الله ويردعان خياراته العملياتية، فكان أن حوّل الحزب ذلك الى حافز مضاعف للتصميم على الذهاب أبعد مما يتخيّلون في الدفاع عن لبنان شعباً وكياناً وثروات.
في ضوء ذلك، كان لا بدّ من جرعة قدرة - رسالة سيفهمها جيش العدوّ أكثر من كثيرين من غير ذوي الاختصاص. وأهمية هذه الجرعة أنها تعالج ما يمكن أن يراهن عليه العدو، في مكان ما، من الناحية العملياتية. إذ أظهر فيديو الإعلام الحربي معطيات تكشف عن مستوى معين من القدرات ستكون حتماً موضع دراسة دقيقة في كيان العدو وستحضر على طاولة القرار السياسي والأمني.
من ضمن ما أظهرته المقاومة في هذه الرسالة أنها تتمتع فعلياً بسيطرة استخبارية كاملة على المساحة البحرية التي تضم منشآت غازية وتتحرك ضمنها البوارج الحربية الإسرائيلية. ولا يخفى، أيضاً، أن ما ظهر من خلال الفيديو يؤكّد - بحسب الخبراء العسكريين - أن كل عناصر الاستهداف والرمي متوافرة، ولا ينقص سوى صدور القرار وتنفيذه من قبل القوة الصاروخية في المقاومة. ويشير تشخيص المنشآت على مسافة نحو 100 كلم بكاميرات حرارية الى حجم التطور في قدرات المقاومة التي لا تحتاج، في هذا المجال، الى مسيّرات للاستطلاع والتشخيص. ومعلوم أن من أهم عناصر العقيدة العسكرية للمقاومة أنها لا تكشف عن كل قدراتها. لذلك، يمكن إطلاق العنان للخيال من أجل تقدير ما تملكه المقاومة بما يُمكِّنها، كما أعلن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، من استهداف أي هدف في البر والبحر في كل فلسطين المحتلة.
من المحسوم أن رسالة المقاومة ستفرض نفسها على جدول أعمال هوكشتين


ومعلوم، أيضاً، أن تظهير القدرات ليس هدفاً لذاته، بل مدخل رئيسي للوصول الى صانع القرار في كيان العدو. فإلى جانب التصميم الذي أظهرته قيادة المقاومة مراراً إلى حد تدمير كل جسور العودة غير الواردة، ومن أجل أن يفهم العدو ذلك، فإن أي قرار يمكن أن يتخذه العدو سيكون محكوماً بالضرورة بمعادلة الكلفة والجدوى. وبذلك تكون قد تكاملت عناصر الرسالة المطلوب إيصالها الى كيان العدوّ، مؤسسات ورأياً عاماً وخبراء، بتظهير الإرادة السياسية والقدرة العملياتية بشكل جليّ وصريح. وليس سرّاً أن لدى المقاومة الكثير من الأوراق التصاعدية، المرتبطة بتطور الأحداث، وفي ضوئها تتّخذ قيادة المقاومة طبيعة الرسالة وحجمها وأدواتها وأسلوبها وساحتها.
في التوقيت، من المحسوم أن رسالة المقاومة ستفرض نفسها على جدول أعمال هوكشتين الذي يحمل معه اقتراحاً إسرائيلياً جديداً بحسب وزيرة الطاقة كارين ألهرار، وهي تقول بشكل صريح إن مواصلة سياسة تقطيع الوقت ستؤدي الى تفعيل ما عرضته كاميرا الإعلام الحربي. ويمكن تلمّس ملامح الاقتراح الذي يحمله هوكشتين من مواقف ألهرار التي أكّدت لموقع «يديعوت أحرونوت» أنه «للمرة الأولى، تقدم إسرائيل اقتراحاً جدياً»، في إشارة ضمنية الى فعالية رسائل المقاومة التي أجبرت القيادة الإسرائيلية على تعامل أكثر جدية. ومع أنها وصفت الحل بـ«الخلّاق»، إلا أن مسؤولين إسرائيليين، بحسب تقارير إعلامية، أوضحوا أن الاقتراحات التي قدّمها اللبنانيون لهوكشتين «لا يُبنى عليها». ويتقاطع ذلك مع محاولة ألهرار الترويج بأن لبنان أمام خيارين: «إما البقاء في انهيار اقتصادي أو الانضمام الى الدول المستخرجة للغاز في المنطقة»، في إشارة الى أن على لبنان أن يقبل بالعرض الإسرائيلي وأنه الحدّ الأقصى الذي لن يقدم كيان العدو أكثر منه. والواضح، أيضاً، أن المعادلة الإسرائيلية تنطوي على دعوة صريحة الى عدم التكامل مع المقاومة التي وفّرت عنصر قوة يمكن تصريفه على طاولة المفاوضات، وأعادت التوازن الى المعادلة التي كلفت لبنان 12 عاماً من المفاوضات، استطاع خلالها العدو أن ينقّب ويستخرج ويصدّر ثرواته، فيما ثروات لبنان مدفونة في الأرض وعرضة للنهب. ولم تترك إسرائيل المجال لتحليل رسالتها الصريحة، إذ دعت وزيرة الطاقة اللبنانيين إلى أن «لا تسمحوا لجهات متطرفة بإفساد الأمر عليكم»، في إشارة الى حزب الله. وهو أمر يكشف حجم المخاوف الإسرائيلية من أن تواكب الدولة اللبنانية، بقياداتها الرسمية، المقاومة في ضوء ما وفرته من عناصر قوة وتغيير جذري في المعادلة. لكن، ما لم تقله وزيرة الطاقة صراحة، يعبّر عنه كثير من الخبراء في كيان العدو، بالإقرار بالمعضلة التي تواجه إسرائيل في حال خضوعها لمطالب لبنان والمقاومة، وما سيترتّب عن ذلك من نتائج وتداعيات استراتيجية خطيرة؛ من ضمنها تعزيز قوة ردع المقاومة وتقويض صورة الردع الإسرائيلية. أما إذا رفضت تلبيتها، فإنها ستتورط في مواجهة كبرى هي أكثر من يدرك نتائجها وتداعياتها على أمنها القومي.