كانت فرحة أعضاء المنتخب اللبناني لكرة السلة مضاعفة، ولم تقتصر على إثبات الجدارة في تخطّي المنافسين وبلوغ المباراة النهائية. فهم، بالإضافة إلى هذا المنجز الرياضي التاريخي، نالوا التهنئة الأغلى على قلوبهم.واليوم، ومن بعد كل ما حققوه وهو ليس بالقليل أبداً، صار بمقدورهم أن يخلدوا إلى أسرّتهم هانئين مطمئنين لا يشغلهم شاغل، لا رياضي ولا غيره. فالرجال الذين خاضوا المنازلة تلو الأخرى أثبتوا أن للإرادة الحقّة آليات اشتغالها الخاص، وأنها قادرة عندما تتوفر على تجاوز العقبات، كل العقبات، وخصوصاً تلك المرتبطة بالحاجة إلى المال الوفير الذي يسطو عليه نفر مخصوص (مستحاثات سلالية) من متزعّمي الصحراء، لكنهم مع ذلك يفتقرون إلى إمكانية، أو حتى احتمال، صنع الفارق اللبناني أو السوري أو الفلسطيني أو العراقي أو اليمني أو الجزائري... أي، باختصار، الفارق الذي صنعته معظم شعوب العالم من ذوات الإرادة، والذي يحتاج إلى ما هو أهمّ من المال. وما هو أهمّ من المال هو توفر الإرادة والوعي والتصميم والوضوح المعرفي والثقافي المنعدم في تلك البقاع المشدودة، بفعل إرهاب حكامها التابعين وسطوتهم، إلى ماضٍ بليد أو حديث زائف ومفتعل.
وربطاً بالتهنئة الغالية التي نزلت على الفريق اللبناني نزول النعمة الثورية، وبدءاً من اليوم وصاعداً، بات بإمكان صانعي الإنجاز الآسيوي الكبير، وخلافاً لليالي الأرق الطويل، والأعصاب المشدودة، النوم ملء الجفون. وكيف لا يفعلون والتهنئة التي حملت توقيع حنّا غريب الشخصي، مثلت لكل منهم ذروة الحلم الذي عاش له واشتغل عليه، ولولا الرهان على الفوز به لما صنعوا ما صنعوه ولما بلغوا ما بلغوه. ولأن الأمر كذلك، وهو فعلاً كذلك، فهم أكثر من يدرك أن التهنئة الصادمة (إيجاباً) من شأنها أن تفتح لهم، فرادى ومجتمعين، أبواب المجد الذي كادوا أن يحسبوه عصيّاً عليهم، ودونه المستحيل الإنساني فكيف بالرياضي، وتزوّدهم بالذخيرة المعنوية للوصول إلى ما هو أبعد من البطولة الآسيوية.
يدرك اللاعبون الذين أثاروا حماسة اللبنانيين والعرب وتشجيعهم أهمية ما أنجزوه. لذلك وبالنسبة إلى كلّ منهم، فإنّ ما قبل التهنئة ليس كما بعدها. فالتهنئة الغالية، التي أثارت حسد رياضيي الألعاب الأخرى، وفتحت شهية قطاعات فنية وإعلامية وسياسية، جاءت لتتوّج أيام السهر الطويل وساعات المران القاسي. كما أظهرت للعالم ولكل منهم أن الفاعلين السياسيين (وبشكل خاص «ثوريي» الربيع العربي السوروسي) في بلادنا لا تفوتهم المبادرة. كما أثبتت لكل مشكّك عديم الصبر أن التعب والسهر والبذل والتحضيرات التي لا تنتهي لا بدّ، مهما تأخّر الوقت، من أن تلقى التقدير المستحق.
صحيح أن قلوب بعضهم كادت تنخلع حين وصلتهم أنباء مصادرة الأموال الإسرائيلية المهربة، فأكلهم الشك، وظنوا أن التهنئة التي عاشوا في انتظارها وسهروا الليالي من أجل نيلها يمكن أن تسرقها «الحادثة» التي لم يحسبوا لها حساباً. لكن قلقهم لم يعمّر. فصاحب التهنئة الذي خبر جيداً «صنع» الأحداث، وتقديم المهم على الأهم، كان قد وطّن نفسه على تحقيق رغبة الشباب الرياضي في نيل التهنئة التي تعني لهم ما هو أكبر وأعظم حتى من نيل البطولة.
ربما بتأثير من الأفكار المستقرة، أو لأسباب أخرى أقل أهمية، وأكثر تأثيراً، يربط الكثيرون منّا بين شهرة الشخص وتأثيره. ويتعاملون مع ربطهم هذا بميكانيكية لا تقبل الاعتراض. غير أن هذه الميكانيكية غير السوية سرعان ما ترتطم بالواقع المختلف والمخالف. فالواقع هذا لا يترك منفذاً ولو صغيراً إلا ويسدّه.
تملأ صور المدعو فلاديمير زيلينسكي وأخباره العالم أجمع. وتكاد لا تمر ثانية لا يذكر فيها اسمه. وتتسابق صحف العالم ومجلاته ومحطات تلفزته الكبيرة والصغيرة وغيرها من الوسائل للحديث عنه وعن «تصدّيه» الخارق للحرب الروسية. لكن حقيقة هذا الكائن، وأسباب تصدّره للمشهد، تكمن في مكان آخر تماماً. فالقائمون على صنع هذه الأكذوبة لا يريدون للناس أن يعرفوا الحقيقة. ومختصر هذه الحقيقة التي ربما صدمت بعض سذّج العالم وأغبيائه، أن الرجل لا يعدو أن يكون قناعاً لغير وجه ولغير فاعل، وأنه مجرد ألعوبة يراد من خلالها وقف التحولات المنذرة بفقدان الهيمنة الغربية، وتثبيت الاختلالات السياسية والاجتماعية والثقافية التي يرعاها قتلة العالم الغربي وسفلته الذين لا يجيدون غير صنع الحروب وارتكاب المجازر وتعميم الفقر والتبعية... الاختلالات التي تفاقمت واشتدّت مع انهيار الاتحاد السوفياتي العظيم.
وعلى النقيض من هذا المهرّج الصغير الذي تُرى صوره هنا وهناك وهنالك، لا تُرى ولو صورة واحدة لحنا غريب أو لأيّ من أعضاء مكتبه السياسي! وهؤلاء «الأعضاء»، والحق يقال، أقوى وأخطر، وبما لا يقاس، حتى من «قائدهم». وأغلبهم، إن لم يكن كلهم، مجرد أقنعة لا وجوه لها، ولم يسبق لأيّ من وسائل الإعلام، حتى العريقة منها، القدرة على الإحاطة ولو بملمح واحد من ملامحهم. بل ويقال إن أعتى الأجهزة المشهورة أو المعروفة بقدرتها على النفاذ إلى حيث تريد أو ترغب تعجز عن بلوغ أسوار «المكتب السياسي» المحصّنة تحصيناً شديداً ومعقّداً يفوق تحصينات مكتب «لانغلي» أو غيره من المكاتب المشابهة. لذا لا عجب أن أغلب هؤلاء، لا وجه له. ومع ذلك، فإن العالم يحبس أنفاسه خشية التعرض لهم. فالجماعة من أصحاب البأس. وهل من عاقل يجرؤ على اللعب مع أصحاب البأس؟
حنّا الغارق في تجديد وترميم وإعادة إطلاق «ثورة أكتوبر» اللبنانية ماضٍ في خيارات مكتبه السياسي الثورية التي تستلزم طرد هذا وعزل ذاك وتجميد ذلك، فضلاً عن مهمة إبعاد «الحزب»، الذي آلت أمانته العامة إليه (إدارياً وليس نضالياً)، عن مجمل تاريخه وحقيقة هويته التي ارتبطت بقضايا المقاومة والوحدة والتحرّر والتحرير وقيم العدالة الاجتماعية وأهداف التنمية... أما الموقف من مسألة العمالة والمتعاملين، وآخرها قضية مطران الأموال الإسرائيلية فمسألة لا تستحق التعليق، وإن اضطرّ إلى التعليق فلا أكثر من تعليق متأخّر وعام نخلط فيه المسائل ونعجن فيه القضايا. فيتحوّل إلى تعليق فاقد للمعنى والهدف. أي بخلاف قصة التهنئة التي ربما استدعى صدورها اجتماعاً طارئاً لمكتبه السياسي لسبب واضح ووجيه ويستلزم بذل الجهد وتنشيط العقول. وهنا، ومن باب العلم الضيق، قد لا يكون حنّا وحده المسؤول عما يجري للحزب من صعود لنوع من لبرلة رثّة وصدئة، إلا أن مجرد امتناعه، كأمين عام مفترض، عن التصدي لشراذم «المتمدننين» من سقط المتاع «السوروسي»، الذين تسلّلوا إلى مكتبه السياسي واحتلوا معظم مقاعده يجعله مسؤولاً.
تحمّس بعض البلهاء وطالبوا «شيوعيّي الإدارة» بموقف واضح من قضية العمالة الأخيرة المتدثّرة بالأعمال الإنسانية وأخذوا عليها تريّثها لأيام. وفات هؤلاء البلهاء قصيري النظر، عديمي الفهم، أن لدى «الإدارة» ما هو أهم بكثير من الالتفات إلى هذه السفاسف التي يمكن أن تؤخّر، لكنها حتماً لا تقدّم. فالأولوية للتثوير الليبرالي.
ختاماً، إذا كان هناك من درس يمكن البناء عليه، فهو أن بإمكان القائد المتفرغ للثورة اللبنانية ولتنظيمها الطليعي أن يجد متّسعاً لتهنئة الرياضيين الذين يحملون في طيّات تفانيهم روح الإنسان الساعي إلى الانتصار على الذات قبل الآخرين، ويتريّث في مسألة بحجم العمالة.
بقي أن نقول إن درس الأمثولة الذي قضى بأن يعود الإعرابي بخفَّي حُنيْن بعد فقده لراحلته قد لا ينطبق على «الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني» الذي يبدو أن خسارته ستشمل، أيضاً، الخفّيْن اللذين يمنّي نفسه بالفوز بهما.