إنسلخت خلود، الرضيعة إبنة الثلاثة أشهر، عن والدتها سمر، فجأة، بعد توقيف الأخيرة بجرم الإيذاء. حُرمت الطفلة من حضن والدتها ومن الغذاء الطبيعي والضروري لعمرها (الرضاعة الطبيعية) لترمى في يدي جدتها المسنة. بقيت خلود بعيدة عن حضن والدتها أكثر من سنة ونصف سنة، بعدما رُفضت طلبات تخلية سبيلها، وانتظرت حتى محاكمتها وصدور حكم بالإكتفاء بمدة توقيفها. بمعزل عن مدى قانونية التوقيف نسبةً لماهية الجرم، ما يفتح باباً آخر من السجال، هناك أسئلة كثيرة تُطرح لناحية المدة التي قضتها سمر خلف القضبان (أوقفت إبّان جائحة كورونا) والفائدة التي جناها المجتمع جرّاء هذا التوقيف، والمشقّة التي تكبّدتها عائلتها للإنتقال إلى مكان توقيفها في إحدى النظارات حيث قضت معظم مدة توقيفها، لعدم إمكانية نقلها إلى السجن بسبب الإكتظاظ الشديد، ناهيك عن مصاريف تأمين الطعام وغير ذلك من الإحتياجات. هل أُخذ في الإعتبار الأذى النفسي والجسدي للأم وطفلتها بسبب انفصالهما الكلي خلال مدة التوقيف الطويلة؟ والأهم من ذلك: ألم يكن في الإمكان الإستعاضة عن التوقيف بإجراء بديل يضمن محاكمتها وحقوق المدّعي الشخصي من جهة، ولا يسلخها عن أسرتها من جهة أخرى مراعاة لمصلحة الطفل؟

(سجن رومية ــ هيثم الموسوي)

لم يعتمد لبنان بعد وسائل تقنية حديثة تتيح مراقبة الموقوف عن بعد، كالسوار الالكتروني الذي كان تدبيراً مقترحاً جرّاء جائحة كورونا، ووعدت السلطات الفرنسية «إعلامياً»، أنذاك، وزارة العدل بتزويدها به كبديل عن التوقيف، للتخفيف من أزمة الإكتظاظ، ومراقبة المشتبه به أو المدعى عليه من دون الحاجة إلى توقيفه. إلا أن المادة 111 من قانون أصول المحاكمات الجزائية قد تفي بالغرض هنا، وفي كثير من الحالات الأخرى. إذ تجيز هذه المادة لقاضي التحقيق، أياً كان نوع الجرم، الإستعاضة عن توقيف المدعى عليه بوضعه تحت المراقبة القضائية، وضمانة لذلك إلزامه بموجب أو أكثر، كإلتزام الإقامة في مكان ما، وعدم مبارحته، وإيداع جواز السفر لدى الدوائر المعنية، تقديم كفالة مالية.
لكن، لماذا لا يتم اللجوء إلى تطبيق هذه المادة في كثير من الحالات، سيّما أن قرينة البراءة تبقى موجودة حتى الإدانة؟ فالسائد لدى القضاة هو إتباع تدبير التوقيف، حتى أن جائحة كورونا في ذروتها وعلى خطورتها، لم تحث القضاء اللبناني على إعتماد هذا الإجراء!
وما يقال عن التوقيف، يقال أكثر بكثير منه عن السجن، وهو التدبير الذي يلي المحاكمة، بحيث يقضي المحكوم مدة معينة، مع مجموعة كبيرة من الأشخاص بمعزل عن نوع الجرم وخطورته، في مخالفة واضحة للقوانين والأنظمة المرعية الإجراء، فيتمّ توقيف من إرتكب جرم سحب شيك من دون مؤونة، مثلاً، مع محكوم بجريمة قتل أو مخدرات!
خسر «ريّان»، الموظف في إحدى الدوائر الرسمية، لقب «الآدمي» بعد توقيفه ومحاكمته وسجنه لأكثر من عام بجرم تحرير شيك بلا رصيد. منذذاك، بات ضيفاً دائماً في السجن، لا يكاد يخرج حتى يعود مجدداً ليحاكم بجرائم الاحتيال والتزوير التي تعلّمها على يد «شلّة من النزلاء تعرّف إليهم لدى دخوله السجن للمرة الأولى»، وهو «لم يعد مرغوبا كفرد من أفراد العائلة»، على ما تقول زوجته، مردفة أن «الحبس ضيّعو، ما عاد هو اللي كنا نعرفو». هكذا، خسر عمله بعد القرار التأديبي بحقه، وفقد إحترام عائلته ومحيطه.
«واصف» هو الآخر دخل السجن بجرم إساءة الأمانة، بعدما تعسّر عن تسديد دين كان قد إستلفه على شكل سند أمانة عندما كان يعمل سائقاً في إحدى الشركات. بمجرّد دخوله السجن حيث قضى نحو سنة، إنحرف عن مسار حياته السابقة، بعدما تعرّف إلى مجموعة من النزلاء، وسار معهم في الطريق نفسه. خرج من السجن عاطلاً من العمل، ولكن حاملاً معه، ما تعلمه من أساليب النشل والسرقة، والكثير من «الثأر من المجتمع والدولة»! هكذا حاز واصف لقب « صاحب سوابق»، بعدما تكرر دخوله وخروجه، وفي رأيه أنه «لا يمكن الخروج من هذه الدوّامة إلا بالهجرة إلى بلد يحترم فيه الإنسان»!
هناك المئات من ريان وواصف داخل السجون، دخلوا بجرائم «بسيطة»، فغرقوا هناك في مستنقع الإنحراف والإجرام، لمجرد إحتكاكهم بنزلاء آخرين متهمين أو محكومين بجرائم أخطر وأكبر. وبسبب سوء الظروف خلف القضبان، وغياب أي من البرامج الإصلاحية والتأهيلية، إنجرفوا مع تيار الإنحراف والإجرام، فإمتهنوا إرتكاب جرائم أخطر من تلك اقترفوها، وخسروا عملهم وعائلاتهم. من هنا تأتي أهمية السير في قانون إستبدال العقوبة بالعمل الاجتماعي. وهو، رغم الثغرات التي تعتريه وضرورة معالجتها، إلّا أنه يعدّ قفزة نوعية في مفهوم تحقيق العدل لجهة إستبدال العقوبات المانعة للحرية، بأخرى غير مانعة ذات مغزى إصلاحي، لا «انتقامي».
بهذا، يشهد لبنان، للمرة الأولى، ثقافة إصلاح السجين بدل معاقبته بسلب حريته. ومن شأن استبدال عقوبة السجن بالعمل الإجتماعي إتاحة الفرصة أمام المحكوم للإنخراط في قضايا الإنسان والمجتمع والمساهمة في خدمة هذه الفئات، ما يساهم بإسداء منفعة عامة للمجتمع، بدل خلق حواجز بينهما، وعزله مع من يشكلون خطراً على سلوكه وتالياً على المجتمع.
تطبيق العقوبة البديلة يخفف، بالتأكيد، من مشكلة الإكتظاظ، وما يترافق مع ذلك من أعباء ونفقات على إدارة السجن في ظل هذه الأزمة الحالية، بحيث بالكاد تستطيع السجون تقديم الحدّ الأدنى من الخدمات. كذلك من شأن ذلك تخفيف أعباء التنقل التي تتكبّدها عائلة السجين لزيارته. والعقوبة البديلة تساهم، بشكل واضح، في الحفاظ على العلاقة الاجتماعية وتماسك الأسرة، بحيث يبقى «المعاقب» مع أسرته، أثناء تنفيذ العقاب، ويمكنه، مثلاً، متابعة دراسته دون إنقطاع. ولعلّ أهم أهداف هذا القانون هو عدم حرمان المحكوم بعقوبة العمل الاجتماعي من العمل كمصدر رزق له. إلا مدة العمل الاجتماعي الطويلة، المفروضة عليه، وهي بدلاً عن كل يوم واحد من السجن، قد تعيق تحقيق هذا الهدف إلى حدٍ ما. يبقى الأهم أن الآثار النفسية التي تتركها العقوبة البديلة، حميدة بطبيعة الحال، على عكس السجن تماماً الذي يترك وسماً يبقى مطبوعا على جبين السجين مدى الحياة. لذلك فإن اللجوء إلى السجن كعقوبة ينبغي أن يكون في «أبغض الحالات»، أي في الجرائم ذات الخطورة وعبر أشخاصٍ يهدد وجودهم في المجتمع حياة الآخرين.



العقوبة البديلة: بطاقة تعريف
هي إستبدال العقوبة الأصلية، أي السجن، بعقوبة أخرى غير سالبة للحرية، كخدمة يؤديها للمجتمع، الغاية منها تجاوز مفهوم العقاب إلى العمل الإصلاحي - التأهيلي الذي يفيد المحكوم والمجتمع في آن. وقد أقرّ المشرّع اللبناني في 26-6-2019، «قانون استبدال بعض العقوبات بعقوبة العمل الاجتماعي المجاني»، في حالات عدم التكرار ولمن لديه جنحة غير شائنة، عقوبتها سنة وما دون، بثماني ساعات من العمل الاجتماعي عن كلّ يوم سجن، لدى أحد أشخاص القانون العام، أو المؤسسات أو الجمعيات التي لا تتوخى الربح. وبموجب هذا القانون، ينبغي أن تصدر لائحة عن وزيري العدل والشؤون الاجتماعية تحدد هذه الجهات، ما لم يحصل حتى الآن، الأمر الذي عرقل السير قدماً في تنفيذ القانون، علماً أن جمعيات عدة تقدّمت بطلبات لإعتمادها كجهة لتنفيذ العقوبة، من بينها مصلحة مياه الليطاني. ويبقى السؤال: ماذا تنتظر الوزارات المعنية لاستكمال هذه الخطوة، بإصدار لائحة بأسماء الجمعيات والمؤسسات المعنية.

ثغرات في القانون
لا يمكن التقليل أبداً من أهمية القانون، وضرورة السير فيه سريعاً، وإصدار لوائح باسم الجمعيات والمؤسسات المعتمدة لتنفيذه، إلا أن البحث في قانون «إستبدال بعض العقوبات بالعقوبة العمل الاجتماعي المجاني»، يرصد ثغرات عديدة بين بنوده، تحتّم إعادة النظر فيه والعمل على تعديله ليحقق مبتغاه، وكي لا تفرّغ مواده من مضمونها وجوهرها.
من شأن استبدال عقوبة السجن بالعمل الإجتماعي إتاحة الفرصة أمام المحكوم للإنخراط في قضايا الإنسان والمجتمع والمساهمة في خدمة هذه الفئات

ولعلّ أبرز الثغرات هي مدة العمل الاجتماعي الطويلة مقابل الـ «لا شيء، أي من دون أي بدل رمزي. إذ فرض القانون ثماني ساعات، كمدة للعمل الإجتماعي، لدى جمعية (أو مؤسسة وإدارة عامة) بدلاً عن كل يوم حبس، من دون أي مقابل، وهو عدد الساعات عينه المحدد في قانون العمل اللبناني والذي ينبغي أن يلتزم به الموظف. فهل يستطيع المحكوم التوفيق بين عمله من جهة وتنفيذ العقوبة من جهة أخرى؟ وهنا تنبغي الاشارة إلى أن الدول التي اعتمدت عقوبة العمل الاجتماعي وضعت سقفاً مقبولاً لساعات العمل، ففرنسا مثلاً حددت الحد الأقصى المحكوم به للعمل بـ 400 ساعة، وبريطانيا 200 ساعة فقط، أما في لبنان قد تصل الى 2920 ساعة. من هنا ينبغي إعادة النظر في عدد الساعات، أو على الأقل إعطاء بدل رمزي يسدّ رمق المحكوم ويحفزه على تنفيذ العقوبة. مع الإشارة أن القانون لم يلحظ موافقة المحكوم على قبوله بالاجراءات، الأمر الذي يعود إقراره للقاضي وحده. كما لا تطبق أحكام القانون المتعلّق بتحديد السنة السجنية بتسعة أشهر، عند احتساب مدة العقوبة.
والملاحظ أن القانون أخذ بمعيار مدة العقوبة المحكوم بها للإستفادة منه، وهذه المدة يجب أن لا تتخطى السنة في الجنح غير الشائنة، (وهي لا تشمل بطبيعة الحال المكررين)، الأمر الذي من شأنه أن ينقص بالتأكيد من مروحة المستفيدين منه وهم كثر في السجون، إذ أنه كان في الإمكان توسيع الدائرة، لتشمل الجنح غير الشائنة التي لا تتجاوز مدة عقوبتها الثلاث سنوات.

القانون أخذ بمعيار مدة العقوبة المحكوم بها للإستفادة منه، وهذه المدة يجب أن لا تتخطى السنة في الجنح غير الشائنة


وقد شمل القانون أيضاً فئة الأحداث التي حظيت بحماية خاصة وتدابير كثيرة، منها المنفعة العامة، ضمن قانون خاص بها (قانون حماية الأحداث المخالفين والمعرضين للخطر) فما جدوى شمولها بهذا القانون؟
كذلك، ما المبرر من إستبدال الغرامة المالية، وهي عقوبة غير مانعة من الحرية، بالعمل من أجل المنفعة العامة (الذي يمكن أن يكون أكثر قساوة من الأولى)، طالما أن الهدف من وجود هذا التدبير الحؤول دون السجن، أو لماذا على الأقلّ لم يعطَ المحكوم حرية الإختيار بين الإثنتين؟
ثم من سيراقب في بلاد الفوضى والفساد مدى شفافية التقارير الصادرة عن الجمعيات، التي يتم تنفيذ العمل الاجتماعي لديها، والمولجة بتقديمها للقاضي بحسب القانون؟ ومن سيراقب مدى إلتزام المحكوم بدوام العمل وأدائه؟ وهل لدى هذه الجمعيات آليات وإمكانيات للمراقبة؟ هذه النقاط يجب إعادة النظر فيها، لإعطاء فعالية ونجاعة للقانون، ولكي يكون بالفعل عقوبة بديلة من السجن، والأهم من ذلك الإسراع في استصدار لائحة بأسماء المؤسسات العامة والجمعيات التي لا تتوخى الربح، لوضع القانون على سكة التنفيذ.



المادة 111: قانون أصول المحاكمات الجزائية


لقاضي التحقيق، مهما كان نوع الجرم، وبعد استطلاع رأي النيابة العامة، أن يستعيض عن توقيف المدعى عليه بوضعه تحت المراقبة القضائية، وبالزامه بموجب أو أكثر من الموجبات التي يعتبرها ضرورية لإنفاذ المراقبة.


قواعد طوكيو
كثيرة هي القواعد التي وضعتها الأمم المتحدة، والمتعلقة بالتدابير غير الإحتجازية البديلة عن عقوبة الحبس، أهمها قواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا للتدابير غير الإحتجازية (قواعد طوكيو 1990)، التي وضعت خارطة طريق في إتباع سياسة جنائية حديثة، تتفق والمبادئ الإنسانية وتتماشى مع مبادئ حقوق الإنسان، عبر تدابير إصلاحية - تأهيلية، بعيداً من الحجز من الحرية. والمفارقة في هذه القواعد التي تختلف عن قانون استبدال العقوبة بالعمل الاجتماعي في لبنان، هو ضرورة موافقة الجاني على أي من التدابير المفروضة بحقه.


كما أن هذه التدابير لا تقتصر فقط على مرحلة ما بعد الحكم، بل تشمل أيضاً مرحلة ما قبل الحكم. والميزة الهامة في هذه القواعد وأهمها، إنتقاء التدابير بما يتلاءم مع طبيعة الجرم وشخصية الجاني وخلفيته من جهة، ومصلحة المجني عليه من جهة أخرى، والهدف المتوخى من الحكم (مصلحة المجتمع). وتدابير بدائل الإحتجاز وفقاً لهذه القواعد تتنوع وفقاً لما ذُكر، من التوبيخ والإنذار... مروراً بنزع الملكية والإقامة الجبرية، تأدية خدمات للمجتمع، إلى الإقامة الجبرية وغير ذلك من التدابير الذي يمكن أن يجدها القضاء مناسبة.
أما قواعد الأمم المتحدة لمعاملة السجينات والتدابير حول القواعد غير الإحتجازية للمجرمات (قواعد بانكوك 2010)، فتعتبر من أهم الآليات الدولية التي تعترف بإحتياجات النساء الخاصة بنوع الجنس في منظومة العدالة الجنائية ووضع المعايير من أجل التعامل معهن. وأهم تلك القواعد التوصية بعدم الفصل بين المجرمات وأسرهن، وتطبيق أساليب بديلة عن الإحتجاز، من خلال إحالتهن إلى برامج إصلاحية، سيّما للنساء الحوامل والأمهات، وفي جميع الحالات مراعاة مصلحة الطفل...


وكما للنساء كذلك للأحداث، فقد وضعت الأمم المتحدة قواعد نموذجية دنيا لإدارة شؤونهم (بكين 1985)، وهي تتسم بالإنصاف والإنسانية وتقوم على تعزيز رفاه الأحداث وتدعو إلى معالجة قضايا الأحداث قدر الإمكان من دون اللجوء إلى محاكمة رسمية من قبل السلطة المختصة...أضف إلى الكثير من الآليات الدولية التي شددت على إتباع تدابير بديلة من السجن، للوصول إلى عالمٍ أكثر عدالة وإنصافاً.