انهارت قيمة الليرة اللبنانية، وبات راتب العنصر أو الرتيب أو حتى الضابط في قوى الأمن الداخلي لا يكفي لتغطية حاجاته والحاجات الأساسية لأسرته، بينما تعجّ بعض المطاعم والمنتجعات والنوادي الليلية الفخمة بالرواد والزوار، وتُنفَق آلاف الدولارات على الحفلات والاعراس والمهرجانات السياحية. ورغم توقف بعضهم عن العمل، إلا أن العدد الأكبر من العناصر والضباط في الخدمة لا يزالون يحضرون الى مراكز عملهم بانتظام ويسعون الى تنفيذ مهماتهم. بعض هؤلاء وجدوا وظائف إضافية في القطاع الخاص خلال أيام فراغهم، في ظل تفهّم قيادتهم للظروف الصعبة وتساهلها في ما يتعلق بدواماتهم. هكذا، أصبح عدد من العناصر في الخدمة الفعلية يعملون في مطاعم وفنادق وشركات تجارية، ومنهم من يقوم بخدمات أمنية خاصة أو يعمل سائقاً عمومياً أو مرافقاً خاصاً لمجموعات سياحية، إضافة إلى أعمال أخرى.
الضباط والعناصر يعيشون قلقاً من المستقبل، خصوصاً من شارفوا على نهاية عملهم وباتوا على أبواب التقاعد، في وقت بالكاد يكفي الراتب التقاعدي لشراء الخبز.
هذا الوضع يستدعي دراسة عميقة لسلوكيات ضباط قوى الامن وعناصرها، خصوصاً ان نسبة الجريمة في لبنان، رغم ارتفاعها بعض الشيء، لا تزال منخفضة مقارنة بالظروف التي يمر بها البلد. صحيح ان الأشهر الأخيرة سجلت زيادة في جرائم القتل والسلب والسرقة، وأن بعض أفراد العصابات ينتحلون صفة أمنية لتنفيذ جرائمهم، غير ان الوضع الأمني لا يزال افضل منه في العديد من الدول التي لا تعاني المشكلات نفسها. فنسبة احتمال تعرض سيدة للسلب او الاعتداء في ضواحي باريس أو لندن أو بعض احياء نيويورك وشيكاغو، مثلاً، تزيد بأضعاف عن احتمال تعرضها لذلك في ضواحي بيروت وفي شوارعها. والفضل في ذلك يعود الى عدد من العوامل، منها التركيبة الاجتماعية والعلاقات الاهلية والترابط العائلي.
لم يدفع الجوع، حتى الآن، ضباط قوى الامن وعناصرها الى تأليف عصابات سطو على أملاك الناس. لكن لا يجوز التسليم بأن ذلك لن يحصل ابداً. إذ أن أبسط النظريات العلمية تؤكد ان حرمان رجال مسلحين في موقع سلطة من حاجاتهم الأساسية يدفعهم نحو السرقة والعنف والسطو المسلح. علماً ان بعض الضباط والعناصر تأقلموا بعض الشيء مع الوضع الراهن، ومنهم من تمكّن من تأمين راتب مواز أو يحصل على مبلغ شهري بالعملة الصعبة من سياسي يقوم بمرافقته او بحراسة املاكه؛ ومنهم من يعتمد على مدخول زوجته أو أولاده وعلى مساعدات أقارب يقيمون في الاغتراب.
تؤكد أبسط النظريات العلمية أن حرمان رجال مسلحين في موقع سلطة من حاجاتهم الأساسية يدفعهم إلى السرقة والعنف والسطو المسلح


قبل انهيار العملة الوطنية عام 2019، كانت مؤسسة قوى الامن الداخلي تعاني من مشكلات عدة مستمرة حتى اليوم، منها النقص في العديد وفي الموارد، وتعذر اجتماع مجلس القيادة، وتكليفها بأعمال تخرج عن اختصاصها مثل التبليغات القضائية ومخالفات البناء وإدارة السجون، وعدم تحديث القانون 17/90. وتضاعفت التحديات منذ ذلك الحين الى ان بلغت ذروتها اليوم. لكن المؤسسة لم تشهد انهياراً، ويفترض التمسك بها ودعمها والحفاظ عليها حتى لا تنهار في الأشهر المقبلة، خصوصاً ان المؤشرات تدل الى تفاقم الأزمات لا الى حلحلتها.
تأسست قوى الامن الداخلي قبل قيام الجمهورية اللبنانية، لا بل ان قوى الامن ساهمت بشكل كبير في قيام الجمهورية. اليوم، وفيما يعاني ضباطها وعناصرها من نقص حاد في حاجاتهم الأساسية، إلا أن ان استمرار عمل المؤسسة بالحد الأدنى يدل الى انها ركن من اركان الجمهورية. قوى الامن الداخلي تستحق اهتماماً اكبر ونظرة أشمل، ويحتاج ضباطها وعناصرها الى بعض الامل بمستقبلهم ومستقبل مؤسستهم، ولا يتمنى معظمهم لها أن تتحول الى وكالة خاصة او ميليشيا مسلحة أو شركة تجارية أو مجموعة سماسرة ومرتزقة. مؤسسة قوى الامن الداخلي ملك للناس وفي خدمة للناس. وانطلاقاً من جودة الخدمة تصنع قوى الامن مكانتها في السلطة. والعكس صحيح.