لا شك في أن رواتب الموظفين في القطاع العام لا تكفي لتغطية النفقات المعيشية الأساسية والضمان الصحي وأقساط المدارس والجامعات للعام المقبل(وقد بدأ التسجيل في ظل مطالبة بعض المؤسسات التربوية بالدفع بالعملة الصعبة). ولا شك في ان ذلك يرفع منسوب القلق والتوتر خصوصاً للموظفين الذين يتولون مهام حساسة تتعلق بسلامة وأمن ومصالح اشخاص آخرين.بعض الأطباء في المستشفيات الحكومية باتوا يعتمدون على مدخول عياداتهم الخاصة، وبعض الضباط والعسكريين أصبحوا موظفين في شركات خاصة في أوقات فراغهم، أما أساتذة المدارس الرسمية والجامعة اللبنانية فمنهم من انتقل الى القطاع الخاص ومنهم من يبحث ليل نهار عن مدخول بالعملة الأجنبية ليسدّ جزءاً من ديونه المتراكمة.
بادر بعض المسؤولين في الدولة مؤخراً الى تعديل رواتب القضاة دون غيرهم ممن يتقاضون رواتبهم من خزينة الدولة. وقد رُفعت رواتب القضاة بطريقة غريبة وبقرار اداري/سياسي مستعجَل واستثنائي. برر البعض هذا التمييز من خلال الإشارة الى الموقوفين بقرارات قضائية والحاجة الى البت في قضاياهم واخلاء سبيل من لا حاجة للاستمرار في توقيفه. ولا شك في ان القضاة، كغيرهم من موظفي القطاع العام، بحاجة الى هذه الزيادة ليتمكنوا من القيام بمهامهم وتغطية نفقات الانتقال الى المحاكم وبعض من حاجاتهم وحاجات عائلاتهم. لكن ألا ينطبق ذلك على موظفين في مجالات أخرى؟
صحيح ان وظيفة القاضي حساسة ودقيقة إذ أنه مكلّف بإصدار القرارات والأحكام التي يمكن ان تشمل توقيف أو اطلاق سراح أشخاص مشتبه بهم أو انزال عقوبات سجنية أو حتى اعدام أشخاص اذا ثبت ارتكابهم جنايات بحسب قانون العقوبات. لكن هل يجوز عدّ تلك المهام أولى من مهام الطبيب في المستشفى الحكومي أو الاستاذ في الجامعة اللبنانية او المحقق في الشرطة القضائية أو غيرهم من موظفي القطاع العام؟
القاضي مؤتمن على احقاق الحق وانصاف الناس من خلال تطبيق القانون واتباع تسلسل الإجراءات القضائية بحسب الأصول. والطبيب مؤتمن على صحة المرضى وقد يؤدي علاجه الى نجاة اشخاص من الموت. والمحقق مؤتمن على التحقيقات الجنائية من خلال جمع الاثباتات وتحليلها بدقة. فهل يجوز ان يرفع راتب احدهم دون الآخر؟ وكيف يقبل القاضي المكلف بإنصاف الناس بهذا التمييز الذي يقدّم حقوقه على حقوق الآخرين؟
اعتقد ان معظم القضاة الشرفاء محرجون لأنهم يدركون ان منحهم زيادات على رواتبهم دون غيرهم امر غير منصف وغير عادل علماً ان رواتبهم الأساسية بعد انهيار قيمة العملة الوطنية باتت لا تكفي لتغطية ابسط النفقات.
زيادة رواتب القضاة قد تساهم في تخفيف العبء المالي لكنها تضع بعضهم في موقع صعب لأن التمييز المجحف يتعارض مع الضمير ومع القيم الأخلاقية والالتزام بمبادئ العدالة والانصاف.