منذ ثمانينيّات القرن الماضي لم تغب عن أحياء الضاحية الجنوبية لبيروت، وبقية المناطق التي يتمتّع "حزب الله" بحضور وازن فيها، هتافات الولاء لـ"الإمام المهدي"، ولا سيما خلال مسيرات تشييع الشهداء. تضجّ الأحياء الصغيرة بصرخات، كانت الأبنية المتلاصقة في منطقة "بئر العبد" تساهم في تفخيم صداها: "جار علينا الزمان، يا مهدي. نهتف يا ابن الحسن يا مولاي، يا مهدي". لطالما كان حزن المؤمنين لغياب إمامهم، وشوقهم إلى لقائه كبيرين، رغم ذلك يبقى من الصعب فهم هذا التعلّق بشخصية لم يعرف عنها الناس شيئاً منذ نحو اثني عشر قرناً. لا يعرفون الكثير، لكنّ علاقتهم به مرتبطة بـ"الأمل". هو الذي سيخلّصهم من جور الزمان عليهم. لذا يمثل بالنسبه إليهم صورة "المخلّص" الموجود في كلّ الأديان، سماوية كانت أم وثنية. لا يمكن لمؤمن أن يتمسّك بعقيدة لا ينتهي فيها الزمان إلى وقت يعمّ فيه القسط والعدل، حتى الأديان الوثنية كالهندوسية قسّمت الزمن إلى أربعة، وفي العصر الرابع والأخير يعمّ الظلم والطغيان، إلى أن ينزل آخر المبعوثين "فيشنو" (Vishnu) فيستأصل الشرّ ويفرض العدل.
إلى الأديان السّماوية التي بشّرت، كلّ على طريقتها، بظهور مخلّص في نهاية الزمان. اليهود ينتظرون ملكاً مسيحياً، والمسيحية عودة المسيح، والإسلام ظهور "المهدي". الاتفاق بين هذه الأديان واضح على رفع الظلم، نشر العدل، وراثة "العباد الصالحين" للأرض وجعلهم الحكام فيها.

المهدي في الإسلام
إسلامياً، اتفقت المذاهب على انتظار شخصية "المهدي" لكنها اختلفت على الشكل. السّنة قالت على لسان أبرز علمائها بخروج "رجل من عترة (عائلة) النبي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً"، هذا الاتفاق. أمّا الخلاف فكان: وُلد أم لم يولد بعد؟ الشيعة قالت بولادته والسّنة عارضت الفكرة وقالت إنّه سيولد في وقت لاحق. هو، بحسب العقيدة الشيعية الإمامية، الإمام الثاني عشر من ذريّة الرسول محمد، من أبناء علي بن أبي طالب وفاطمة بنت محمد. وُلد في الخامس عشر من شعبان سنة 255 هجرية في سامرّاء العراق. ذكرى ولادته من الأعياد الأساسية عند المسلمين الشيعة. والده الإمام الحادي عشر الحسن العسكري ابن علي الهادي. أمّه نرجس ابنة قيصر الروم وسليلة شمعون الصفا. عاش لـ72 سنة غاب فيها عن الأعين وقد سُميت الـ"غيبة صغرى"، كان يخاطب فيها سفراءه فقط، وهم أربعة، وبدورهم ينقلون الأخبار إل الناس. وبعد وفاة السّفير الرابع بدأت الغيبة الكبرى المستمرة إلى يومنا هذا.

ينتظر أهالي بعلبك اليوم المشاركة في «نشيد إمام زماني - سلام يا مهدي»، ويليهم السبت أهالي القرى الحدودية جنوباً، بعدما كانت الضاحية استقبلت المشاركين مساء أول من أمس (هيثم الموسوي)

ولو دقّقنا أكثر في أسماء المهدي لوجدنا أنّها تتمحور حول فكرة انتظار الناس له للخلاص، فهو المنتظَر والقائم والحجّة. حتى "المهدي" ليس اسمه الحقيقي بل سُمّي باسم الرسول، إنّه محمد بن الحسن العسكري. ولأن البحث يدور حول معتقد المذهب الشيعي يجب الذكر أنّ "المهدوية"، أو الإيمان بالإمام المهدي، في صلب العقيدة الشيعية وهي من أصول الدين. فلا يمكن أن تخلو الأرض من "وليّ"، ولا يمكن للناس أن لا يتمسّكوا بفكرة وجوده بينهم وعودته.

نشيد "سلام فرمانده"
في لبنان تحمل مؤسسة كشفية اسم الإمام المهدي. هذه المؤسسة العاملة على صناعة الأجيال وثقافتها، وجدت في عمل إيراني المنشأ يُحاكي تعلّق الأجيال بإمامهم حمل اسم "سلام فرمانده" عملاً لافتاً، تجاوز الحدود فقرّرت أن تتلقّفه. يروي المفوّض العام لكشافة الإمام المهدي نزيه فياض أن الفكرة انطلقت من إيران بمبادرة شعبية تهدف للربط بين الإمام والأجيال الصغيرة: "المشهديات العاطفية والوجدانية الشعبية التي انتشرت بشكل قياسي مع مشاعر جيّاشة شكّلت حالة عامة". ما جرى في أصفهان انتشر كالنار في الهشيم إلى بقية المحافظات الإيرانية، ومن بعدها إلى دول أخرى مثل تركيا، أفغانستان والبحرين، يقول فياض: "كانت المبادرات شعبية دائماً وتتمّ من دون تنسيق، جرت خلالها المحافظة على اللحن والمحتوى ولكن بصياغة لغوية تناسب كلّ بلد".
يساعد النشيد بحسب مُعدّيه على ارتقاء المستوى الروحي والقيميّ عند الأفراد


في لبنان، جرت الاستفادة من اللحن وتم "لبننة النشيد مع إدخال رموز المقاومة الإسلامية في مقاطعه، وحملت النسخة اللبنانية اسم "سلام يا مهدي". يرى فياض أنّ "النشيد الجديد يمثل المؤسسة القائمة على حبّ المهدي، وتقديم الولاء له، والتسليم عليه في بداية كلّ نشاط ونهايته. ولم يكن الهدف تقديم مقطع فني تجاري حصري". لذا جرت الاحتفالات في المساحات العامة "للوصول إلى المشهدية الكبيرة، لم نعتمد الحصرية فالجمال في وجوه الأطفال وعيونهم" يقول فياض. ويضيف: "قبلنا أن يكون كلّ فرد مراسلاً، يصوّر وينشر على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي". والأولاد خلال تدريبات الأداء في القرى والأحياء كانوا يستعدون "لا لأداء نشيد، بل للسّلام على إمامهم". بالتالي زادت الحماسة ووصلنا إلى أعداد مشاركين لم تُسجّل في تاريخ الحركة الكشفية اللبنانية الممتدّة على مدى 110 سنوات. في النبطية حضر 12.200 كشفي في المدينة الكشفية، في صور شارك 7000 منهم في الملعب الروماني. ما سبق أدى إلى موجة استقطاب ضخمة صوب الكشاف. "مش عم نلحّق طلبات"، وينقل لنا الأهالي عن "تقديم الأولاد لمصروفهم للمشاركة في الاحتفالات القادمة".
أخيراً ومن خارج الاحتفالية وعلى المستوى الثقافي، وللإجابة على سؤال: عن أيّ تحدّ ثقافي يستجيب النشيد؟ يرى فياض أن النشيد مساعد على "ارتقاء المستوى الروحي والقيمي عند الأفراد للترفّع عن المناكفات الصغيرة"، ما يؤدّي بالتالي إلى "التزام أكبر بثقافة النظام العام والقانون". ويختم فياض بوصف "نموذج الفرد النافع" الذي يخلقه النشيد لدى الأطفال أصحاب المشاعر الصادقة.