كان يفترض أن يكون على جدول أعمال جلسة مجلس إدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي التي ستعقد يوم الجمعة، بند يقترح تعديل تعرفات الطبابة والاستشفاء لزيادة قيمة تقديمات الصندوق الممنوحة للمضمونين والمستفيدين على عاتقهم، تماشياً مع تضخّم الأسعار وارتفاع الأكلاف. لكن إدارة الضمان، قرّرت أن تعرض في الجلسة ملفاً يقترح فتح اعتمادات بقيمة 30 مليار ليرة لشراء المازوت اللازم لتشغيل مراكز ومقرّات الضمان. هذه المفارقة لم تحصل صدفة، بل هي أمر مخطّط له وممنهج ومدروس أيضاً. فالضمان الذي يعاني من إفلاس غير معلن كغيره من الصناديق التي تدير محافظ مالية في لبنان، يتغذّى على حالة الإنكار السائدة في لبنان ويمارسها بطريقة جذرية، إذ يدّعي أن لديه فائضاً في صندوق ضمان المرض والأمومة، بينما الواقع أنه تكبّد خسائر هائلة في الأموال التي يديرها نيابة عن العمال والتي وظّفها لدى المصارف وفي سندات الخزينة. وهو أيضاً لم يعد قادراً على استعادة مستوى تقديماته التي كانت تساوي 80% من قيمة فواتير الطبابة، و90% من قيمة فواتير الاستشفاء، إذ إن الصندوق لا يغطّي حالياً أكثر من 10% من قيمة الفواتير المدفوعة... رغم كل ذلك، فإن القضية المركزية في الضمان هي تأمين المازوت.يستفيد من الضمان نحو مليون ونصف مليون شخص في لبنان. ثلث هؤلاء أو أقلّ هم عاملون بأجر، والباقون هم عائلاتهم: زوجة، ابن، ابنة، أب، وأم. وقبل عام 2019، كان الضمان يمثّل شريحة مغطاة بالتقديمات الاستشفائية والطبية تقدّر بنحو ثلث المقيمين في لبنان. ويدير الضمان محفظة مالية، هي عبارة عن تعويضات نهاية خدمة للعمال مؤجّلة السداد بقيمة 12 ألف مليار ليرة كلّها كانت موظفّة بالليرة اللبنانية، ثم جرى تحويل ما يعادل 574 مليون دولار إلى توظيفات بالدولار المصرفي (المحجوز في المصارف). لكن أتى الانهيار، وإن كان هناك اختلاف على وقت حصوله في مطلع عام 2019 أو منتصفها أو نهايتها، ليبتلع كل هذه البنية الاجتماعية - الاقتصادية. فالتضخّم أدّى إلى انهيار قيمة المحفظة المالية وقضم النسبة الأكبر من قيمة التقديمات. كان لدى الضمان نحو 8 مليارات دولار، وبات لديه نحو 450 مليون دولار. ورغم أن مسؤولي الضمان التنفيذيين أطلعوا في 2018 بأن الانهيار آت، إلا أنهم لم يحرّكوا ساكناً واصطفّوا إلى جانب حالة الإنكار. هكذا بات الضمان لا يتميّز عن سائر الصناديق، مثل صندوق تعاضد المعلمين، وصندوق نقابة المهندسين، وصندوق نقابة المحامين، وصندوق نقابة الأطباء، وغيرهم، إلا في مواصلة ممارسة الإنكار. فلغاية اليوم لم يقم بأي إجراء لمواجهة هذه الكارثة، ولا حتى لإدارتها.
عملياً، خسر الضمان بسبب مفاعيل الانهيار وبسبب الإنكار، الوظيفة الوحيدة التي كان يرفعها شعاراً له: صمام أمان المجتمع. ففي موازاة التضخّم، أدّى الإنكار إلى إلغاء فرص إدارة الأزمة، وحوّل الضمان من المؤسسة الخاضعة لسيطرة حركة أمل، إلى فوضى لا إدارة لها. وفي ظل هذه الفوضى، لم يعد ممكناً الحصول على التقديمات، ولا على تعويض ما أصاب هذه التقديمات من تدنٍّ في القيمة. وفي هذا الوقت قرّرت إدارة الضمان الانتظار لأكثر من سنتين حتى تصحيح الأجور لتقول إن التصحيح يعزّز الإيرادات من دون أن تقدّم أي رؤية أو خطّة لتحديد آلية إنفاق الإيرادات الإضافية التي تقدّر بنحو ألف مليار ليرة. لا بل تبيّن أن الضمان يسير بلا قطع حساب منذ 2010، وبلا موازنة 2022 التي أعدّت على أساس وجود فائض في الصناديق من دون أي احتياط لمخاطر الانهيار.
هكذا فقد الضمان وظيفته في إدارة تعويضات العمال، وفقد دوره الاجتماعي بعدما انكمشت قيمة التقديمات من 90% إلى 10%. أما ادعاء الضمان بأنه يحقق فائضاً، فإنه يأتي على حساب انكماش التقديمات. صحيح سيتم تحقيق فائض محاسبي، لكن في المقابل، توقف المضمونون عن تقديم الفواتير لأن القيمة المستردّة منها لم تعد ذات قيمة. فعلى سبيل المثال، كانت فاتورة الدواء بقيمة 50 ألف ليرة تردّ 40 ألف ليرة، أما اليوم فالفاتورة نفسها باتت 500 ألف ليرة ولا تردّ أكثر من 40 ألف ليرة. هكذا سيتم إطفاء خسائر الضمان من خلال تعزيز الفوائض الوهمية على حساب الدور الوظيفي والاجتماعي.
في هذا السياق، بات واضحاً لماذا يجري نفخ بعض الملفات وتحويلها إلى مسائل ساخنة. فمنذ فترة، يطغى نقاش في الضمان حول أمر واحد: تأمين المازوت لمولدات الكهرباء. مدير الضمان محمد كركي، وقبل أن يسافر في جولة إلى جنيف وعمان، رفع كتاباً إلى مجلس الإدارة يطلب منهم السماح بإنفاق 30 مليار ليرة لشراء المازوت. لكن أعضاء في مجلس الإدارة مثل رفيق سلامة وفضل الله شريف وغيرهما، يعتبرون أنه على إدارة الضمان تقديم حسابات الصندوق أولاً لمجلس الإدارة، ورفع موازنة عامة مبنّدة بشكل تفصيلي ليتم إقرارها والموافقة عليها، وذلك قبل أي نقاش، إذ لا يمكن الموافقة على نفقات قد تكون من أموال لا يملكها الضمان، وهو ما أظهره التدقيق في نفقات سنوات سابقة وجرى توثيقه في تقرير أعدّه خمسة أعضاء في مجلس الإدارة ورفع إلى النيابة العامة المالية.
غير أن القصّة لها جذور سياسية أيضاً. فما حصل بشأن مشروع وزير العمل لإعادة تكوين مجلس الإدارة واللجنة الفنية واللجنة المالية، لعب دوراً في إقفال الضمان والتركيز على ملف شراء المازوت. ففي الفترة التي سبقت الانتخابات النيابية كان وزير العمل يطلب من ممثلي العمال وممثلي أصحاب العمل تسمية ممثليهم في مجلس إدارة الضمان.
لماذا لم يتخذ قرار بزيادة التقديمات في الضمان رغم تعزيز الإيرادات؟

وجرى اتفاق ضمني على تسمية رئيس وعضوين للجنة الفنية، على أن اللجنة المالية تتشكّل بمجرد تشكّل مجلس الإدارة. إذ إن المجلس الحالي، منتهية ولايته منذ أكثر من 12 سنة، وفيه نقص واسع يطغى على آلية اتخاذ القرار ويعطّلها. انتهى الاتفاق بكارثة تراجع فيها الرئيس نبيه برّي عن موافقته على هذه التعيينات بسبب «أصوات» حركية معترضة على وصول ميراي خوري إلى رئاسة اللجنة الفنية، ووصول شخص محسوب على التيار الوطني الحرّ إلى مجلس إدارة الضمان. برّي أبلغ بيرم أنه لا يريد هذه التعيينات، لكنه أرسل كركي للتفاوض مع بيرم لأن لدى كركي «قلقاً» من بعض الأسماء مثل خوري. يومها طلب كركي، أن يكون أحد أبرز المقربين منه واسمه محمد خليفة، في اللجنة المالية بدلاً من مستشار الضمان المالي حسن دياب. الأول يسمع الكلمة، والثاني مستقلّ. على مضض، أرسل بيرم اسم خليفة كعضو في اللجنة الفنية، باعتبار أن الأولوية تقضي بتشكيل أجهزة الضمان... فجأة عقد اجتماع في عين التينة حضره إلى بري، كل من الوزير السابق علي حسن خليل وكركي ورئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر، ورئيس المكتب العمالي علي حمدان. بعدها تبلّغ بيرم أن التعيينات سترفع عن جدول أعمال مجلس الوزراء.
أسّست هذه الواقعة لما حصل لاحقاً. فالضمان استمرّ في الفوضى إلى أن باتت إدارة الضمان تحثّ المستخدمين على الإغلاق. كل ذلك لأن الوزير طلب الالتزام بالإنفاق وفق القانون. ثم وجّهت إدارة الضمان كتاباً يطلب من الوزير الدعوة إلى عقد جلسة لمجلس الإدارة، بينما هي لديها الصلاحية للدعوة إلى الجلسة ومناقشة فتح الاعتمادات. أصلاً إدارة الضمان معنية باقتراح معالجات للفوضى التي خلقتها، ومنح مجلس الإدارة خيارات في إدارة الأزمة.