سلّط انهيار مبنى النشّار في محلة ضهر المغر بمنطقة القبّة في طرابلس الأضواء على مئات الأبنية الشبيهة به، والمهدّدة بالانهيار فوق رؤوس قاطنيها، بسبب قدمها وتهالكها، وتصدّعات عدة ظهرت في جدرانها وسقوفها نتيجة عدم قيام أيّ أعمال ترميم أو صيانة أو تأهيل لها منذ سنوات وعقود. وكانت بلدية طرابلس قد أنذرت سكان المبنى الذي انهار مساء أول من أمس، وسكان مئات المباني المشابهة له، قبل أقلّ من سنتين بضرورة إخلائه فوراً لأنّه مُعرّض للانهيار، أو تدعيمه على وجه السّرعة تجنّباً لحصول كوارث وسقوط ضحايا.
كارثة مرتقبة
ضهر المغر منطقة ذات كثافة سكانية مرتفعة، تغلب العشوائية على أبنيتها السكنية المتلاصقة، والسواد الأعظم من قاطنيها فقراء ومعدمون ومن ذوي الدخل المحدود. تكفي جولة صغيرة فيها بين أزقتها الضيقة، وعلى أدراجها التي تصل بين منطقة القبّة ومناطق باب التبّانة وأسواق طرابلس القديمة وبولفار نهر أبو علي، حتى يتبيّن العدد الكبير للأبنية المتهالكة والمهدّدة بالانهيار فوق رؤوس قاطنيها، وأنّ العناية الإلهية وحدها هي التي تمنع وتؤخّر وقوع الكارثة... إلى حين.

حذّرت البلدية سكان المبنى قبل أقلّ من سنتين (الأخبار)

نداءات عدة وجّهها أهالي المنطقة إلى المسؤولين، من البلدية إلى هيئة الإغاثة العليا ووزارة الشؤون وغيرها من الجهات المعنية، من أجل مساعدتهم في ترميم منازلهم المتصدّع أغلبها، والتي تظهر التشقّقات فيها من خلال تسرّب المياه وتساقطها في سقوفها وجدرانها خلال فصل الشّتاء، إلا أنّ كلّ هذه النداءات بقيت بلا طائل. المرّة الوحيدة التي شهدت فيه محلّة ضهر المغر اهتماماً رسمياً كانت في عهد رئيس بلدية طرابلس الراحل رشيد جمالي (2004 ـ 2010)، عندما قامت البلدية حينها، وبتمويل خارجي، بتحسين المظهر الخارجي للمنطقة من خلال طلاء مساكنه بالدّهان بألوان مختلفة، وتأهيل قسم من البنى التحتية فيها، من صرف صحّي وتأهيل أدراج وإنارة داخلية وغيرها.

أسباب عدم الترميم
بعد ذلك عادت المنطقة لتغرق في مستنقع الإهمال والحرمان، لا بل إنّها شهدت تشييد المزيد من الأبنية العشوائية فيها، أو إضافة طوابق سكنية فوق أبنيتها المتهالكة خلال مواسم الانتخابات أو بتأمين غطاء سياسي وأمني لمن يقومون بهذه المخالفات، ما جعل أبنية المنطقة وغيرها من مناطق مدينة طرابلس الشّعبية والفقيرة (مثل باب التبّانة وباب الرمل وأحزمة البؤس المحيطة بالمدينة في أبي سمراء والقبة والعيرونية والمنكوبين) تقف على حافة الانهيار في أيّ لحظة. وحالت أسباب كثيرة دون ترميم أو صيانة هذه الأبنية طيلة السّنوات السابقة، التي تحوّلت إلى "مقابر" لقاطنيها مع وقف التنفيذ. من الأسباب ما هو قانوني، متعلق بقانون الإيجارات كون أغلب هذه الأبنية مؤجّر وفق عقود تعود إلى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وهي عقود دفعت المالك والمستأجر في آن معاً إلى عدم القيام بأيّ من هذه الأعمال، وترك هذه الأبنية عرضة للتآكل والتصدّع بفعل مرور الزمن وعوامله. السبب الثاني الذي لا يقلّ أهمية هو أن قسماً لا يستهان به منها صُنّف، خلال عملية الجرد التي قامت بها بلدية طرابلس للمباني ضمن نطاقها، على أنّها أثرية وتراثية، ما فرض عدم إتمام أيّ عملية صيانة وترميم قبل الحصول مسبقاً على موافقة المديرية العامة للآثار، وهي موافقة يصعب الحصول عليها، ما جعل طرابلس تشهد خلال السّنوات الأخيرة سقوط أبنية قديمة تراثية عدة بفعل عوامل الطبيعة، أو عمداً عن طريق مجهولين.

توضيح البلدية
هذا الوضع شرحه رئيس بلدية طرابلس رياض يمق في معرض توضيحه لما حصل في ضهر المغر، وردّاً على اتهام البلدية بالتقاعس، لافتاً إلى أنّ "هذا المبنى كغيره من المباني المهدّدة بالانهيار في المدينة القديمة والقبّة وباب التبّانة وغيرها من المناطق الشّعبية، أعدّت البلدية تقارير مفصّلة بشأنها وأرسلتها إلى جهات الاختصاص سواء للمديرية العامّة للآثار في وزارة الثقافة أو للهيئة العليا للإغاثة، بالتالي لجانب مجلس الوزراء أو لوزارة الداخلية والبلديات، إضافة إلى أنّ شرطة البلدية وجّهت إنذارات للسكّان بضرورة إخلاء هذه المباني الأثرية أو القديمة الآيلة إلى السّقوط، إلا أنّ الأهالي كانوا يرفضون عملية الإخلاء، كما رفضوا ترميم مبانيهم لعدم قدرتهم على ذلك، ونحن كبلدية ليست لدينا الإمكانية المالية للترميم، كما أنّ القوانين المرعية الإجراء تمنع البلدية من إجراء الترميم على نفقتها، بل في حال وافقت وزارة الثقافة يكون الترميم ديناً ممتازاً للبلدية على صاحب الملك". وكشف يمق أنّ "الأهم من كلّ ذلك أنّ مديرية الآثار في وزارة الثقافة ترفض أيّ طلب لترميم المباني الأثرية، حتى لو توافرت الأموال اللازمة، وهذا الكلام قلناه عشرات المرّات، ونكرّره اليوم".

المبنى غير أثري ولا تراثي
من جهته، كشف رئيس لجنة الآثار والتراث في بلدية طرابلس خالد تدمري لـ"الأخبار" أنّ المبنى المنهار في ضهر المغر ليس أثرياً ولا تراثياً، بل بناء باطوني قديم الإنشاء، ويبدو من القسم المتبقي منه أنّ جدرانه وأرضياته ضعيفة البناء". وتوقف تدمري عند "عدد الأبنية غير المطابقة للشّروط الهندسية التي أُنشئت خلال الحرب، وإضافة طوابق مخالفة حمل كلّ منها اسم مسؤول سياسي أو أمني قُبيل انتخابات أو أحداث سياسية معينة، حيث سمح كلٌ في عهده بإضافتها عشوائياً فوق الأبنية الباطونية المتصدّعة أو الأثرية المتهالكة، من دون دراسة إنشائية لوضع أساسات تلك الأبنية سواءً في المناطق الشعبية أو داخل المدينة التاريخية أو في أطراف المدينة، وسط تقاعس الجهات الأمنية، وهي أبنية تعدّ هندسياً بمثابة توابيت محتمة".
الطوابق المخالفة حمل كلّ منها اسم مسؤول سياسي أو أمني


بدوره، أوضح عضو بلدية طرابلس السّابق خالد صبح لـ"الأخبار" أنّ "القاصي والدّاني يعرف أنّه يوجد في طرابلس أبنية قديمة ومتصدّعة وقابلة للانهيار، وهناك كُتب رُفعت بخصوصها للحكومات المتعاقبة والمعنيين، وأنه يوجد في البلدية ملفات للأبنية الآيلة للسقوط التي بحاجة إلى ترميم وصيانة، وهي تحتاج إلى مباشرة المعنيين معالجة الأمر والانكباب على تأهيلها". وسأل صبح: "كيف ستُرمّم هذه الأبنية إذا كانت أثرية أو تراثية من دون موافقة وزارة الثقافة، وإلى أين سيذهب السكّان إذا تركوا مساكنهم المتصدّعة لتأهيلها؟"، داعياً "الحكومة ومجلس الإنماء والإعمار والهيئة العليا للإغاثة وبلدية طرابلس إلى طرح الملف بشكل علمي ومهني وعملي صريح، وإيجاد حلول متكاملة بشكل سريع بعيداً من العواطف لأنّ الوضع خطير جدّاً، فهناك عشرات الأبنية الآيلة للسقوط، وفي حال لم يتحرّك المعنيون بالسّرعة اللازمة سنكون أمام وقوع مجزرة".