الشهر الفائت، قرّرت رنا غنوي أن تكشف عن حادثة مؤلمة تعرّضت لها قبل 11 عاماً. في ذلك الوقت كانت تلك الفتاة القادمة من قرية نائية لتتعلّم في المدينة. «توقع أستاذي في الجامعة أن أكون صيداً ثميناً له، صغيرة السن، تخشى الفضائح، هبلة كما يتصوّر، لكن خاب توقعه». عندما تحدثت رنا آنذاك عمّا حصل معها، أغلب من في الجامعة لم يصدقها، إلا من وقعت معهن أمور مماثلة وأخبرنها بذلك سرّاً. «لم أملك أي دليل، والشبهات حوله كانت صفر. دخلت في دائرة لوم النفس. تفحصت كل تصرفاتي، فهل للباسي الجريء نوعاً ما دور؟ أو الطريقة التي أمزح بها في الصف؟ هل أساء ترجمة بعض أفعالي؟ ألأنني لم أنزعج عندما لعب بشعري عندما كان يمرّ بيننا واعتبرت الأمر عرضياً؟ هل أوحى له كلّ ذلك بالتمادي؟!». غير أن الأكثر إيلاماً بالنسبة لها كان «أن كلّ الطالبات اللواتي كنّ معي في تلك المرحلة كنّ يعرفن أنه متحرّش لكن لم يتجرّأن على المواجهة والتحذير منه».تحت عنوان «نصدّق الناجيات»، كتبت رنا عن الحادثة التي تعرّضت لها مع أستاذها. لم تَخْطُ هذه الخطوة بسهولة، بل بعدما تمكنت من اختصاصها في مجال الإرشاد الاجتماعي. وهي اليوم استشارية في الشؤون الأسرية والتربية الوالدية تقول: «التحرّش سببه المتحرّش». ومن خلال عملها في مجال التدخل الاجتماعي والمتابعات الفردية تؤكد أن حالة من كل 7 نساء يتعرّضن للتحرش وبعضهن يرتدين ملابس محتشمة. «هؤلاء من أفصحن فقط، لكن العدد أكثر بكثير. كثيرات يخفن من البوح حتى لمعالج نفسي».
(مروان بوحيدر)


كلفة البوح
في المقابل، لم تكن المواجهة التي خاضتها لونا صفوان سهلة لأن المتهم بالتحرّش على صفحتها على مواقع التواصل الاجتماعي واجهها بمعركة قضائية تحت عنوان الإساءة إلى السمعة. «لم يكن في بالي التحدّث بالموضوع علناً، لكن عندما اكتشفت أن الأسلوب المتبع من قبله معي هو نفسه مع أخريات وجدت أن هذه هي اللحظة المناسبة وفيها تشجيع لمن تعرّضن للتحرّش لكي يعبّرن». عندما قدّمت لونا شهادتها، لامها البعض لأنها لم تختصر الأمر بزرّ «البلوك» وينتهي كل شي. لكن «وجدت أنه شخص لديه حضور اجتماعي، لم يتردّد بالتحرش بي رغم أنني من الذين لا يسكتون عن الإساءة، فالأكيد أنه حاول مع فتيات أخريات».
لم تشعر لونا بالندم على بوحها رغم محاولات إرهابها وإسكاتها «كنت مستعدة لكلّ العواقب، لكن ما آلمني هو أن أجد أنني أجرّ إلى القضاء وألقى المعاملة نفسها التي يلقاها المتحرّش، لأنه استخدم تهمة إساءة السمعة للمواجهة»، وهذا برأي لونا يخيف نساء أخريات لا يقدرن على تحمل كلفة البوح النفسية والاجتماعية والاقتصادية. لكنها في الوقت نفسه ترى «أننا في خضم اختبار قانون التحرّش بناء على الدعوى المقدّمة من مجموعة فتيات ضد المتهم، لأن الطريقة الوحيدة لحماية النساء هي القانون».

ناجية وليست متسبّبة
مع حملات الإفصاح عن التحرّش التي ازدادت في السنوات الأخيرة، تجد رنا أن نظرة المجتمع لموضوع التحرّش اختلفت نوعاً ما بالتوازي مع اختلاف مفهوم منظار القوة، التي كانت مطلقة للرجل. صار المجتمع يرى السيدة على أنها ناجية وليست المتسبّبة بما يقع لها. طبعاً هذا لم يحل دون لوم الضحية/الناجية، إنما على الأقلّ حدث نوع من وعي لأفعال التحرّش بحق الفتيات والحصول على حقوقهن بالحماية.
حملات الإفصاح عن التحرّش غيّرت نظرة المجتمع للموضوع


تتفق رنا ولونا على أنهما ضد الفضائحية، إلا في حال كان المتحرّش ذا شأن سياسي أو نفوذ اجتماعي لا يستطاع معه إثبات أنه أقبل على الفعل الشائن بغير إحداث مناصرة اجتماعية. بغير هذه الحالات، تجد رنا أن التوعية عبر الإعلام الممنهج الذي يمكّن الفتاة من المعلومات وإنضاج المفاهيم أهمّ، كما تطوير السياسات الحمائية التي تستحضر وجود اختصاصي علاجي لتفصح الناجية عما تعرّضت وتتعرّض له، وتحصّل عبر ذلك حصانة وتطوير مهارات التعامل مستقبلاً مع حالات مماثلة، وتوفير آلية إدارة الحالة بطريقة صحيحة أكثر جدوى في ظلّ وجود محيط غير آمن.

القاعدة الذهبية
ترجع الاختصاصية في علم النفس العيادي، كوزيت معلوف سبب الخوف من الاعتراف بالتعرض للتحرّش إلى التربية كأساس، إذ تتربى الفتيات في العالم العربي على الخوف والرعب من المواضيع الجنسية. «ولا مرة تحدّث أحد معنا في الجنس، لا الأهل ولا المدرسة، ولم نلق أي تفسيرات حول اللمسة الآمنة واللمسة غير الآمنة، ولا شعرنا بأننا سنتلقى الدعم في حال تعرّضنا لأمر ما كي نتمكن من الإخبار عنه، بل كنا نلملم المواضيع ونتهم أنفسنا بما حصل لنا». لذا، برأيها «تتأخر الفتاة لتتحدّث لأنها غير مؤمنة بوجود بيئة داعمة خالية من الأحكام لن ترحمها وتشكك في روايتها بما يصبّ في مصلحة المعتدي. ولذا أيضاً تخاف الكثيرات، ليس مما حدث معهن إنما مما سيتعرّضن له. ومن هنا ولدت القاعدة الذهبية لدعم الفتيات الناجيات بأن نصدّقهن».
لكن كيف تعرف الفتاة أن ما تتعرّض له تحرّش؟ تجيب معلوف «التحرّش ليس جسدياً دائماً، بل يمكن أن يكون على شكل كلمة أو صورة أو نكتة غير لائقة، لذلك إجابتي للفتيات هي أنك إذا شعرت أن هناك خطأ ما فهذا تحرّش. المؤشر هنا هو إحساس الشخص إزاء ما يتعرّض له. لكن للأسف ما من ترجمة قانونية للإحساس والشعور. وحتى تكون له قيمة قانونية يجب أن يكون مرفقاً بدليل وموثقاً. ولذلك نطلب عادة من الناجيات، ليس لأننا لا نصدقهن، أنه إذا أردن أخذ منحى قانوني لأخذ الحق من المتحرّش أن يحتفظن بالوثائق، أو التهديدات أو الصور أو حتى الاستعانة بشهود».