بعد نحو شهرين على قرار مجلس الوزراء هدم مبنى أهراءات القمح في مرفأ بيروت، وإعلان وزير الثقافة عن إنشاء معلم ملاصق للمرفأ يحفظ ذاكرة الانفجار، تقدّم ثلاثة أطراف بمراجعة أمام مجلس شورى الدولة لإبطال القرار. المراجعة التي تقدّم بها مكتب الادعاء في نقابة المحامين في بيروت، بوكالته عن بعض أهالي الضحايا، تطالب بوقف القرار «لما له من تداعياتٍ بالغة على هذه القضية وعلى التحقيقات وعلى مسرح جريمة العصر، ولما يعتريه من عيوبٍ قانونية جمّة مُبطِلة له». كما تقدّم بمراجعتين مماثلتين كلّ من «المفكرة القانونية» وعدد من أقرباء الضحايا.وعلى جبهة ثانية، تقدّمت كتلة «الكتائب اللبنانية» نهاية الأسبوع الماضي باقتراح قانون معجّل مكرّر إلى مجلس النواب لحماية مبنى أهراءات القمح في مرفأ بيروت، يتضمّن مادة وحيدة تنصّ على منع هدم المبنى وتصنيفه معلماً ثقافياً وطنياً لتخليد ذكرى شهداء انفجار مرفأ بيروت، وتكليف الإدارات العامة المختصة خلال شهر من تاريخ صدور هذا القانون بإجراء الأشغال الطارئة اللازمة لتدعيم المبنى وحمايته حفاظاً على السلامة العامة.
تحرّكان يُعيدان السجال حول الموقف من هدم المبنى أو ترميمه إلى الواجهة، فيما يتساءل جيران المرفأ عمن يرمّم ذاكرتهم من حوادث سابقة أيضاً: هل ننسى إن هدموها... أو أبقوها؟
الهدم لا يطمر الجريمة.
من نافذة صالون فيوليت أبو شقرا، يظهر الحوض الخامس لمرفأ بيروت. كيفما اتجهت التسعينية في شقتها في الكرنتينا، ترى جانباً من «البور»، الذي تشعر بأنه أحد أفراد عائلتها. بجواره وُلدت ولعبت وسبحت على الشاطئ الرملي وكبرت من رزق والدها الذي كان أحد البحارة في ميناء الصيادين الذي كان يقع عند أحد جوانب المرفأ قبل أن تزيله التوسيعات. وفي الحيّ نفسه، تزوجت وأنجبت وسعت لرزق أبنائها الثلاثة مع زوجها. في واجهة الخزانة في صدر البيت، وُضعت على أحد الرفوف لوحة زرقاء كتب عليها «مار مخايل 75». هي بعض ما رفعه أولادها من تحت الركام في الحي بعد انفجار 4 آب. ابنها الموظف منذ 41 عاماً، قرّر الاحتفاظ بها كغنيمة من الزمن الجميل عندما شارك مع زملائه في مؤسسة كهرباء لبنان بترقيم شوارع المنطقة وتثبيت لوحات عليها أسماؤها. «شلّحونا كل شيء. لكن لا يمكنهم أن يشلّحونا الذاكرة» تقول. عدا اللوحة والذكريات، تملك هي وجيرانها شواهد كثيرة ليس على الانفجار الأخير، بل على كوارث كثيرة سبقته «لم توثقها وسائل التواصل الاجتماعي وهواتف المواطنين. لكننا لم ننسها مع مرور الزمن». تحفظ تفاصيل مقتل زوجها بقذيفة في برمانا في حرب السنتين عام 1977. كما تحفظ حادثة انفجار خزّانات الوقود في الدورة عام 1989. «رجّت الأرض وضوّى البيت في عزّ النهار ووصل صوت الانفجار إلى جونيه». في انفجار الدورة، سقط ضحايا ظهرت جثثهم. لكن في الكرنتينا، افتُقد العشرات ولم يحدّد مصيرهم حتى الآن، خلال إحكام القوات اللبنانية سيطرتها على المنطقة والمرفأ وتحوّل الجوار إلى خطوط تماس. لم يقوَ الزمن على ذاكرة فيوليت، كما لم يقوَ على ذاكرة أهالي ضحايا الحروب والكوارث الذين أورثوها إلى أبنائهم. لا يضع ابنها جوزيف قضية أهراءات القمح ضمن أولوياته. «والدي قتل بجواري. لم يبق أثر للجريمة سوى في رأسي. لا صورة ولا مقالاً وثقها. مع ذلك، فقد أبقيتها حاضرة». الحال نفسه ينطبق على المرفأ. «الجريمة ستبقى حاضرة لدى من تضرّروا منها. يعني كل اللبنانيين. فهل إذا هدموا الإهراءات، قد ننسى ما حصل في 4 آب أم هل يتوقف التحقيق في الجريمة؟».

الحياة لم ترمّم بعد
قبالة مقر فوج الإطفاء المعاد ترميمه، يقع محل المختار السابق لمنطقة المدوّر جان طنوس. يجلس بين أدراج حفظ فيها ملفات المسجلين والمقيمين في الكرنتينا والمرفأ والمدوّر. يعتبر طنوس أرشيف عائلات معظمها غادرت منازلها تباعاً بسبب كوارث متتالية آخرها انفجار المرفأ، فيما لا يزال يتابع شؤون المنطقة بعد وفاة خلفه المختار فرنسوا جلخ. أمضى سنواته الـ 64 حول «البور» الذي كان والده يعمل فيه سائق «طمطوم»: وهي آلية تنزل البضاعة من البواخر إلى الرصيف. وظيفة والده سمحت له ولإخوته بالانتساب إلى «نادي المرفأ» الشبيه حالياً بنادي الضباط. في ملاعبه ومسابحه، تعلّم الرياضات المختلفة، قبل أن يُغلق النادي مع بداية الحرب. يحفظ ورش توسعة المرفأ حتى الدورة على الأملاك البحرية العامة. كما يحفظ طنوس في ذهنه مشاهد عدة من تشييد الأهراءات حتى افتتاحها عام 1970. لكنه لا يبدي حماسة لتحويل الأهراءات قضية أولى بالمقارنة مع تحديات أخرى. «لا نزال نلملم تداعيات الانفجار في حياتنا اليومية. إن كانت غالبية منازلنا قد ترمّمت بتمويل من الجمعيات، لكن دورة الحياة لم ترمّم بعد. التعويضات التي دفعها الجيش لم تزد عن بضعة ملايين ليرة عن أضرار المنازل فقط. ماذا عن خسائر المحال وبضاعتها والسيارات وكلفة تعطيلنا القسري عن العمل لأشهر؟». يتفهم طنوس رفض أهالي الضحايا لهدم الأهراءات لكي تبقى شاهدة على الجريمة. «لكن نحن كأهالي المنطقة، نلفت نظرهم إلى أن المرفأ كلّه لا يزال شاهداً على ما حصل. العمل لم يستأنف سوى بنسبة 10 في المئة. فيما الترميم لم يبدأ في أقسامه». السبيل لكي يبقى المرفأ شاهداً «إحياء مرافقه ومحيطه». بدءاً من عام 1998، حمل طنوس مشاريع كثيرة إلى محافظة وبلدية بيروت ونوابها منها استحداث ممرات ومرافق سياحية وأكشاك تستقطب الزوار على غرار النشاط السياحي الذي شهدته المنطقة قبل الحرب. فضلاً عن منع الشاحنات الخارجة من المرفأ من المرور بين الأحياء السكنية. يجد طنوس في إحياء المنطقة «خير تعويض لأبنائها عما حصل واستقطاب الزوّار من حول العالم لمعاينة الموقع الذي وقعت فيه أحد أكبر جرائم العصر الحديث».