- «شو بيشتغل البابا؟»، سألت المعلمة طالبة في أحد الصفوف الابتدائية.- «بابا مسافر»، أجابت الفتاة بترددٍ.
سؤالٌ بسيط، وجوابٌ بظاهِرهِ أبسط، إلا أنه يحمل في طياته قهر وألم طفلة تقف أمام معلمتها وأصدقائها في الصف محاولة إخفاء الحقيقة. كانت تلهو أمام منزلها يوم شاهدت رجال التحرّي يقبضون على والدها. نظرت إلى وجوه رفاقها كاتمة حزنها وكرّرت: «بابا مسافر». استعادت المشهد. لم يكن عمرها يتجاوز الثلاث سنوات، لكنها لا تزال تذكر بعض التفاصيل: عسكريون مدججون بالسلاح يقولون كلاماً لم تفهمه، لكنها تذكر النبرة العالية والخشونة لحظة اقتيادهم والدها الى السيارة العسكرية، مكبل اليدين، شاحب الوجه.
«ما كان بدي يعرفوا إنو بابا تاجر مخدرات»، قالت الفتاة لـ«القوس» بعيون دامعة.
تتعرّض المكانة الاجتماعية لأسرة السجين إلى صدمة عنيفة على الصعيدين المادي والمعنوي، في ظل غياب الخدمات الاجتماعية والدعم النفسي والمعيشي لذوي الأشخاص الذين يقرّر القضاء احتجاز حريتهم. وتتفاقم المشكلة في ظل الأزمات الاقتصادية وانهيار قيمة العملة الوطنية وشحّ الموارد، وتزيد معاناة الأسر التي يُسجن معيلها من دون مصدر بديل يسدد نفقات المنزل وتربية الأطفال. فيما المساعدة التي تقدمها بعض الهيئات الاهلية والجمعيات لعوائل السجناء لا تكفي، خصوصاً بعد ارتفاع أسعار السلع الغذائية الأساسية. لذلك، لا يفترض ان تقتصر مسؤولية الدولة وقضائها على ملاحقة الجناة وتوقيفهم ومحاكمتهم ومعاقبتهم، بل ان نظام العدالة مؤتمن على احقاق الحق من خلال معالجة كل الجوانب الكفيلة بخفض نسبة الجريمة وتصحيح السلوك الجنائي واحتضان الأطفال الذين حرموا من آبائهم بشكل مؤقت. فيما ترك هؤلاء الأطفال في شبه عزلة وتعرضهم للتنمر بسبب الوصمة الاجتماعية ونعتهم بـ«أولاد المجرمين»، يؤدي الى مزيد من الفوضى والخراب.


السجن المركزي في رومية، (أرشيف ــ هيثم الموسوي)

تعاني مئات الاسر التي سجن معيلها الوحيد النبذ الاجتماعي من المحيط القريب أو البعيد، وتعيش الام والاطفال صراعًا دائمًا للحفاظ على تماسكهم. ويتضاعف الاحساس بالفقد والحرمان بسبب غياب الأب وانعدام راحة الأم، ويرتفع منسوب الإحساس بقسوةِ الظروف.
لا شك في ان أوضاع الاطفال تكون اصعب في ظل غياب الوالدين أو احدهما، خصوصاً في المواقف التي تعرِّضهم للقلق والضغط النفسي، فيطلب عادة الحماية من الأب، والعطف والاحتضان من الأم.
الاتصال الدائم بين الأب وأبنائه يشكل قيمة مهمة في عملية التفاعل العائلي. هذا التفاعل يُبتَر لدى دخول الاب إلى السجن في بلدٍ طبيعي، حيث لا وجود لأزماتٍ اقتصادية أو مشاكل أمنية، فكيف الحال مع أزمة اقتصادية خانقة وتفاقم المشكلات الصحية والأمنية وغياب الاستقرار؟
يعاني كثير من الأطفال آثار صدمات نفسية (TRAUMA) بعد مشاهدتهم أو معرفتهم بأن والدهم أُلقي القبض عليه بسبب ضلوعه في جريمة، بينما التشخيص الطبي والعلاج العيادي غير متوافرين خصوصاً لأولاد الفقراء.
محمد كان في التاسعة عندما داهمت الشرطة منزل ذويه. كان محمد حينها في المدرسة، لكن أخته أميرة الأصغر سناً شهدت عملية توقيف والدها المطلوب بأكثر من مئة مذكرة توقيف لإتجاره بالمخدرات والسلاح، بينما كانت تلعب أمام المنزل. صدمت الطفلة من العنف الذي رافق العملية ولا تزال حتى اليوم تعاني من صدمة نفسية حادة وفي رعب دائم يمنعها من التركيز. أما محمد فقال له سائق باص المدرسة ان «بيك تقوّص ومات، هستر وصار يصرخ ويعيّط»، قالت والدته لـ«القوس». عندما وصل الى البيت ورأى آثار دماء على الأرض جراء اشتباك وقع اثناء المداهمة، لم يقتنع بأن والده ما زال على قيد الحياة. هكذا وصَفَت الأم المشهد، شارحةً حالة الاكتئاب التي يعاني منها طفلاها والتي تستدعي عرضهما على طبيب نفسي فيما الأحوال المادية للعائلة لا تسمح بتسديد كلفة العلاج.
والد سليم (14 سنة) محكوم تسع سنوات سجن في قضيتي سلب. أخبرتنا والدته بأنه عندما علم بخبر سجن والده أصيب بنوبة غضب وبكاء شاكياً بأن الجميع تخلَّى عنه: «بابا تركني وراح، بابا تركني». حاولت والدته أن تشرح له أسباب توقيف والده، لكن ردة فعله كانت عنيفة ولم يكن قادراً على الاصغاء بسبب الصدمة التي تعرض لها، مكرراً: «ليش عمل هيك وتركني؟».
الوضع مختلف بالنسبة لإبراهيم (6 سنوات) وشفيق (9 سنوات). والدهما محكوم بثلاث قضايا إرهاب، وهو في انتظار البت في ملفين آخرين، وقد بلغ مجموع عقوبته السجنية 17 عامًا، لم ينقض منها سوى فترة قليلة. قبل القبض عليه، بقي الوالد فارّاً من وجه القضاء لعشر سنوات حيث لجأ إلى مخيم عين الحلوة. خلال هذه المدة، عانى ولداه من الأوضاع المعيشية الصعبة في المخيم الذي بات بالنسبة لهم اشبه بسجن كبير. «بابا ضهرنا، خدنا مشوار، ليش الأولاد الباقيين بيضهروا مع أهاليهن ونحنا لأ؟». اتخذت العائلة قراراً بالسفر إلى تركيا عبر طرق التهريب، لكن السلطات السورية ألقت القبض عليهم في نيسان العام 2021. بعد إطلاق سراحهم وتسليم الأب للأمن العام اللبناني، عانى الأطفال من اضطرابات نفسية تفاقمت بعد توقيف السلطات الأمنية لوالدتهم للتحقيق معها. أُطلِقَ سراحها بعد مدة قصيرة، غير ان ذلك ترك أثراً بالغاً لدى الأطفال، فباتوا في حالة خوف دائم، يرتعبون من كل شيء، حتى من صوت الباب، والاصوات العالية. «ما بيناموا لوحدن، بكي وقهر على صورة ابوهن». اضف الى ذلك انهم باتو يلجأون إلى الصراخ للتعبير عن الغضب في أبسط المواقف، ولا يتقبلون الكلام والنصيحة من أيٍ كان، حتى من والدتهم أو جدهم وباقي اقاربهم. وتابعت الام وهي تشكو بحزن: «لجأت لدكتور نفسي، زادت عصبيتن وتوترن... ما بيسمعوا الكلمة».
يتكون جانب مهم من شخصية الطفل من خلال الأنشطة المشتركة التي يقوم بها مع والديه. ويمثل الوالد في جزء واسع من مجتمعنا الحامي والمعيل لأسرته، والمتكفل بتأمين عِيشةٍ كريمة لذويه. وبالتالي يؤثر غيابه على المستوى المادي للأسرة. ولا شك في ان الفقر والعوز يدفعان الى استعمال أساليب تربوية خاطئة قد تؤدي لتفاقم هذه الاضطرابات، مثل الافراط في القسوة وعدم الاستجابة لحاجات الأولاد.

(نهاد علم الدين ــ لبنان)

غياب الأب يدفع الاولاد احياناً الى الهوس. وقد روت لنا والدة إبراهيم وشفيق: «كتير فاقدين لبيّن، بحال نزلو تحت البيت وشافوا ولد راكب ورا بيه على الموتسيكل، بيطلعوا كل الليل يحكوا بالموضوع؛ ايمتين بده يجي بابا يركبنا عالموتسيكل؟ ايمتين بده يشتريلنا ويضهرنا؟».
تحاول الأم أن تحمي أبناءها بالأساليب التي تعرفها، وهذا مرتبط إلى حدٍ كبير بالمستوى التعليمي والمادي للعائلة. في السنوات الأولى لسجن والد حسين لم تُضطر الأم للعمل وكان المال مُتوفراً. لكن بعد صدور الحكم على زوجها بالسجن لمدة 13 عامًا مطلع العام 2013، وبعد تسديد اتعاب المحامين المرتفعة، اشترت سيارة تاكسي وباتت تعمل عليها حالياً لتسديد مصاريف اسرتها. اما بالنسبة للعائلات الفقيرة وللام غير القادرة على العمل وادراة شؤونها بمفردها، فيؤدي سجن الاب الى استنزاف قدرات الاسرة الاقتصادية ويحرم الاولاد من الموارد المخصصة للتعليم والطبابة وفي بعض الأحيان حتى من الأكل والشرب. في هذه الحالات وهي كثيرة، يتدهور المستوى المادي، وتتكاثر المشاكل السلوكية لدى الأطفال والتسرب المدرسي، وتزيد نسبة الغضب والتمرد الذي ينعكس على تصرفات الأولاد. وفي كثير من الأحيان يرفض الأطفال متابعة دراستهم لما قد يتعرضون له من نبذٍ ومضايقاتٍ من أقرانهم، وحتى من أصدقائهم في الحي وبعض الأقارب.
الأم التي تجد نفسها شبه وحيدةً في وضعٍ لا تتحمل مسؤوليته، تحمل عبئاً كبيرًا وتحاول التخفيف من الخسائر، فتستعمل اساليب تربية مختلفة مع أطفالها بسبب غياب الأب.
تتفاوت طرق معاملة أطفال السجين بين التدليل المفرط أو الحماية القاسية، لأن الام تسعى بشكلٍ دائم الى توفير الأمان الاقتصادي والمادي للأسرة، ما قد يؤدي الى خلل في العلاقة مع أولادها، فتتعرض لكسورٍ وتشوهاتٍ كبيرة، جراء تشوه صورة المثال الاعلى لدى الأطفال، او حتى للنقمة على النظام الذي تسبب بسجن الأب.
الأم التي تجد نفسها شبه وحيدةً في وضعٍ لا تتحمل مسؤوليته، تحمل عبئاً كبيرًا وتحاول التخفيف من الخسائر


يُضاف إلى ذلك طريقة تعاطي الأب مع أطفاله وهل يصارحهم بخطئه أم لا. فوالد أحمد الموقوف بقضية سلب، رفض أن يزوره نجله في السجن. أدى ذلك الى ردة فعل صادمة من أحمد. اذ شرحت لنا والدته انه: «كان طيوب كتير، بس ما بقى يتقبل الكلام من بيه، ولا بقى يحترمه ولا يقدره، عطول بيقلي، إنتو تركتوني ما ضليتو معي، ما عم يطلع يزور ابوه بالسجن، لأنه رافض الفكرة ما بده يفوته هيك فوتات».
على عكس والد أحمد، يتواصل والد كريم بشكل شبه يومي مع نجله وشقيقته، وزياراتهما الدائمة له ساهمت إلى حدٍ بعيد في الحفاظ على صلابة العلاقة بينهم، ما ضبط التمرد والغضب لدى الطفلين اللذين يبلغان اليوم الثامنة عشرة والسادسة عشرة من العمر. رغم غياب الوالد عنهما منذ عشر سنوات، لم تظهر مشاكل سلوكية أو خلقية، مع أنه لم يتحمل المسؤولية مع والدتهما. أما الابنة فهي متعلِّقة تعلُّقًا شديداً بوالدها. قالت والدتها لـ«القوس»: «البنت كان عندها فزع من البدلة، كل ما تشوف عسكري بتصرخ وبتقلي: يا ماما لأ لأ، ولمن كانت زغيرة بترتفع حرارتها دغري، أما الصبي صار عنده كره للدولة كلها».

* جميع الأسماء الواردة مستعارة



ملاحظتان على الهامش
خلال زيارة ذوي السجناء والبحث عن المراجع والمصادر لاحظنا الآتي:
- خوف افراد أسرة السجين من الكلام وعدم إيمانهم بجدواه ربما بسبب فقدانهم الأمل. وبدا أنهم يفضِّلون الصمت إمَّا لحماية أطفالهم، أو بداعي الخجل من وصمة العار.
- نقص في الدراسات والكتب والمقالات التي تتناول أولاد السجناء في العالم العربي بشكلٍ عام وفي لبنان بشكلٍ خاص. إذ أن أغلب الدراسات والمقالات تعالج مشاكل السجناء داخل أسوار السجن لناحية الحقوق والظروف المعيشية في الداخل، أو تأمين اتصالهم بالعالم الخارجي فالأمر لا يتعدى حق الزيارة وكيفيتها وظروفها وبأحسن الحالات الحق بإجراء الاتصال الهاتفي الدوري.
أما الدراسات فهي نادرة، فيما المقالات التي عالجت هذا الأمر تناولته من منظور اجتماعي بدا سطحياً.


أولاد الأم السجينة أكثر عرضة من أولاد الوالد السجين
تشير بعض الإحصائيات في الولايات المتحدة إلى أن أطفال الآباء المسجونين أكثر عرضة لارتكاب جرائم ودخول السجن من باقي الأطفال. ويبدو ان العوامل الأكثر تأثيراً على الأطفال تتعلق بطبيعة علاقة الاولاد بأهلهم ووضع العلاقات بين افراد العائلة قبل دخول الوالد السجن. علماً ان أطفال الأمهات المسجونات لديهم معدلات جريمة أعلى بكثير من أطفال الآباء المسجونين.

ما بعد إخلاء السبيل
الإفراج هو فترة أخرى من التكيف لجميع أفراد الأسرة. بالنسبة لبعض الأمهات ، يُترجم هذا التكيف بإعادة تنظيم عادات نمط الحياة التي انتهجنها أثناء سجن الأب والتشكيك في علاقتهن الزوجية (الخوف من فقدان الاستقلالية المكتسبة حديثًا، والصراعات الناتجة من تربية الأطفال). الأطفال، من جانبهم، يتعاملون مع الشعور بعدم الأمان المرتبط بالخوف من الانفصال مرة أخرى عن والدهم. بالنسبة للآباء، يتخلل التحرر أهمية إعادة العلاقات مع أسرهم وأطفالهم وكذلك من خلال الوعي بأسلوب حياتهم. وفي هذا الصدد، يشعر بعض الآباء بأنهم «غريبون» داخل أسرهم ، بينما يشير آخرون إلى عدم إدراكهم للتغييرات التي مر بها أطفالهم أثناء السجن وإدراكهم لنقص المعلومات لديهم عن تطور أطفالهم. في مواجهة هذه المشكلات، يُظهر بعض الآباء اهتمامًا بمعرفة المزيد عن دورهم في التربية ونمو الطفل.