التزامن بين انتهاء مناورة «شهر الحرب» الكبرى لجيش العدو على جبهات متعددة، وبين الذكرى السنوية الأربعين للاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، يشكّل مناسبة للمقارنة بين مراحل تطور المقاومة في لبنان وصولاً إلى تحولها إلى قوة إقليمية وتهديد استراتيجي للجبهة الداخلية الإسرائيلية.من المؤشرات على هذا التطور، ما فاجأ به ضابط مظلّي رفيع شارك في مناورات جيش العدو في قبرص، أخيراً، محاوره الصحافي بالقول: «لم نأت إلى هنا لننتصر (على حزب الله)... هدفنا هو أن نتحقق بأن ما هو مكتوب على الورقة يعمل في الميدان»، في إقرار بالفروقات الكبيرة بين ميدان المناورات وميدان الحروب، خصوصاً بعدما حفر حزب الله في وعي قادة العدو ما يعزّز هذا الانطباع. الضابط نفسه أوضح أن مَهمة الجيش «تجهيز سلة من الأدوات على أوسع نطاق ممكن»، كجزء من مروحة خيارات عملياتية أمام القيادة السياسية. ولكن «ليس واضحاً ما إذا كانت القيادة السياسية ستوافق على تنفيذها في الوقت الفعلي»، لافتاً إلى أن الجيش قد يتدرب على سيناريو لن ينفّذه إطلاقاً.
تؤكّد ما أدلى به هذا الضابط وقائع حرب 2006، التي حضّر لها العدو خططاً مختلفة («كاسحة الجليد»، «درع البلاد»، «مياه الأعالي»...) تتضمّن المبادرةَ إلى اجتياح بري في حال عجز الجيش عن وقف إطلاق الصواريخ. رغم ذلك، حرصت القيادتان السياسية العسكرية على تجنب التوغل البري منذ بداية الحرب، كما يؤكد تقرير «فينوغراد»، لإدراكهما حجم جهوزية حزب الله. وتعزَّز هذا التقدير بعد المواجهات في خط الدفاع الأول، في بنت جبيل وعيتا الشعب وغيرهما، وتكبّد جيش العدو خسائر أجبرته على التراجع، قبل أن يضطر في الأيام الأخيرة للقيام باجتياح بري، أدّى إلى ما يُعرف بمجزرة الميركافا.
يصحّ وصف هذه المرحلة من المقاومة بأنها مرحلة وسيطة بين مراحلها المتعددة منذ اجتياح 1982. وهي مراحل شهدت فيها مساراً تصاعدياً، كماً ونوعاً وموقعاً ودوراً.
منذ انطلاقته عام 1982، تميّز حزب الله في خياراته العملياتية ضد العدو، إلى جانب بقية فصائل المقاومة التي انطلقت جميعها من مبدأ جعل الاحتلال مكلفاً عبر الاستنزاف البشري، بعملياته الاستشهادية مباشرة بعد الاحتلال التي ألحقت بالعدو خسائر جسيمة (كتدمير مقرّي الحاكم العسكري في صور مرتين في عام 1982 و1983). وأدى هذا المسار الاستنزافي الذي انتهجته كلّ فصائل المقاومة، في نهاية المطاف، إلى انسحاب جيش العدو عام 1985 الى ما يُعرف بـ«الحزام الأمني».
دراسات عدة صادرة عن مراكز الفكر الاستراتيجي ومعاهد دراسات في كيان العدو، من ضمنها دراسة عن «مركز دادو للفكر العسكري المتعدد المجالات» (تشرين الأول 2021)، ركّزت على التغيير في المفهوم العملياتي لحزب الله «نحو مفهوم جديد لتفعيل القوة». الدراسة الأخيرة لفتت إلى أن الحزب استند في مرحلة سابقة إلى «الصمود» و«الانتصار من خلال عدم الهزيمة»، مع إخفاء قوته الدفاعية والانصهار في المجتمع، وتفعيل مكثّف للنيران ضد القوات البرية والجبهة الداخلية، والامتناع عن المواجهة الجبهوية مع الجيش الإسرائيلي. ورأت أن هذه الاستراتيجية تنطبق على مرحلة 1985 – 2000، ومرحلة حرب لبنان الثانية 2006. من دون التطرق إلى أوجه التطور الذي استجدّ على مقاومة حزب الله، إلى جانب أوجه التشابه بين المرحلتين.
في كل عمليات التحقيب لمراحل المقاومة، تُعدّ حرب 2006 محطة فاصلة شكّلت نتائجها قاعدة تأسيسية لتطور جديد في المعادلات المحلية والإقليمية. وعلى هذا الأساس اعتبرت الدراسة أن ما تلاها كان «مرحلة الاستنزاف الاستراتيجي» التي تقوم على «إنتاج توازن استراتيجي يرتكز على توازن ردع متبادل». في هذه المرحلة، «بلور حزب الله مفهوماً عملياتياً يستند إلى قدرات نارية متطورة ودقيقة، إلى جانب تطوير منظومات القيادة والسيطرة، وتعزيز الكفاءة العملياتية لوحداته القتالية، وبشكل خاص قواته الخاصة المسماة وحدة الرضوان».
واعتبرت الدراسة أن حزب الله شخَّص فرصة لإنتاج معادلة ردع متوازنة وتقليص حرية عمل إسرائيل في لبنان، في ضوء مسارات عميقة من التغيير الاستراتيجي في الشرق الأوسط (تبلور محور المقاومة بدعم إيراني، اتساع النفوذ الروسي، وانسحاب أميركي من المنطقة)، وفهم عميق لعدم استعداد المجتمع الإسرائيلي للتضحية في الحرب المتواصلة على حدوده». وأقرت أنه رغم التفوق العسكري الإسرائيلي الواضح، إلا أن الحزب «نجح في تطوير توازن ردع فعّال عبر تعزيز منظومة النار، والانصهار في المجتمع وتوضيح الثمن (لإسرائيل) الذي ستتلقاه الجبهة الداخلية في الحرب المقبلة». وهي المرحلة التي نجح فيها حزب الله في حماية لبنان استراتيجياً ووفّر مظلة ردع نجح في ظلها في امتلاك قدرات كانت سابقاً حكراً على الدول العظمى، على مستوى دقة الصواريخ والمسيّرات المتطورة.
إلا أن ما رفع منسوب القلق لدى جيش العدو وقياداته وفرض رفع مستوى الجهوزية (كمناورة «شهر الحرب»)، هو انتقال حزب الله، بحسب الدراسة، إلى مرحلة «الهجوم الاستراتيجي»، بمعنى امتلاك قدرات هجومية عزَّزت قدراته الردعية والدفاعية، ووفّرت له خيارات عملياتية لم تكن موجودة لديه سابقاً. فـ«تحول إلى إطار شبه جيش نظامي يسعى إلى إخضاع العدو. وبدأت هذه المرحلة بالتبلور على المستوى المفاهيمي عام 2011، مع تطوير فكرة السيطرة على الجليل، وتسارعت وتيرتها في الساحة السورية...».
وخلصت الدراسة إلى أن «التغير الاستراتيجي، التكنولوجي والإقليمي والدولي، والخبرة العملياتية التي راكمتها سنوات القتال في سوريا، إلى جانب روسيا ومحور المقاومة، دفع كلُّ ذلك حزب الله إلى تجديد استراتيجية مفهومه لتفعيل القوة في مواجهة إسرائيل». ومما يؤشر إليه هذا المسار التصاعدي وحضوره في الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي أن الحزب تمكّن من تقويض كثير من مفاعيل القفزات النوعية والكمية التي حقّقها جيش العدو. وهو، في هذا السياق، أسّس وكرّس معادلة الردع الاستراتيجي، ويطور قدراته وأدواته بما يتلاءم مع متغيرات البيئتين الاستراتيجية والعملياتية.
من أخطر التحولات التي يقر بها قادة العدو أن المقاومة نجحت في تحويل العمق الاستراتيجي للكيان إلى ساحة قتال حقيقية


من أبرز التحولات في دور المقاومة أنها كانت في السابق تقوم على محاولة جعل الاحتلال مكلفاً بالاستنزاف التراكمي لدفعه إلى الانسحاب، ومن ثم «الاستنزاف الاستراتيجي»، إلى القدرة على منع الاحتلال ومنع الاعتداءات العسكرية المباشرة، وامتلاك قدرات هجومية جوية وبرية وبحرية دفعت العدو إلى إجراء مناورات لمواجهة قوات حزب الله في الجليل. ومن أخطر التحولات التي يقر بها قادة العدو أن المقاومة نجحت في تحويل العمق الاستراتيجي للكيان إلى ساحة قتال حقيقية، إلى جانب توقعه خسائر كبيرة سيتلقّاها في أي عملية توغل واسعة، وهي أهم عوامل ارتداعه عن خوض حروب كبرى مشابهة لاجتياح 1982 التي لم يعد قادة العدو يجرؤون على تخيّلها أو التلويح بها. ولعل أبرز تعبير عمّا حفرته تجربة المقاومة في لبنان في وعي قادة العدو، النصيحة التي وجّهها أحد كبار مسؤولي الموساد السابقين، رئيس الشعبة السياسية والأمنية في وزارة الأمن إلى ما قبل أشهر «زوهر بالتي»، إلى الطبقة القيادية في المؤسسة الأمنية: «أنا أقترح على كل أبناء الجيل الذين لم يعرفوا لبنان أن يأخذوا نفساً عميقاً ويضبطوا أنفسهم. لا تتعاطوا مع لبنان إذا لم يكن ذلك ضرورياً».